زيارة لمخيم برج البراجنة في يوم رمضاني هادئ

لا يتعب المراهق من عصر حبات البرتقال في الدكان الصغير في مخيم برج البراجنة. الدكان في الأصل هو مطعم لبيع الفول والحمص، لصاحبه الشاب الأربعيني وليد حسين. لكن وليد اكتفى اليوم ببيع عصير البرتقال، والحمص بالطحينة، والمسبحة. فالطبقان الأخيران مطلوبان على مائدة الإفطار في المخيم. وقد اشترى وليد العصّارة اليدوية هذا العام. أراد من خلال بيع قناني العصير تحسين دخله خلال الشهر الذي يقل فيه الطلب على الأصناف الأخرى في مطعمه.
يفتح وليد مطعمه يوميا من فترة بعد الظهر حتى موعد الإفطار. ويقفله خلال وجبة السحور، على عكس ما يفعل فوالون آخرون. للإقفال سبب. وليد مقتنع بأن تجمع الشبان في حلقات ليلا يقلل من إمكانيات البيع، لا سيما لدى الزبائن من الإناث اللواتي يصير تجوالهن أكثر صعوبة في ظل وجود هذه الحلقات.
بيتزا مزيّنة.. وجبنة ذائبة
تركز الطلب في فرن علي حويلا على المعجنات خلال رمضان. الطلبيات تبدأ باكرا، أي قبل الإفطار بنحو أربع ساعات. في الفرن، يسأل زبونٌ علي عن إمكانية إيصال طلبيته إلى المنزل، فيرد علي إيجابا. خدمة إيصال الطلبيات متوافرة في الفرن، لكنها لا تخرج عن نطاق المخيم بجميع الأحوال.
عبد الفتاح محمد هو الشاب الصغير الذي يزيّن حبات البيتزا المدورة. يعمل في الفرن ثلاثة شبان عدا علي، صاحبه. يتفنن عبد الفتاح في مهمته التي يؤديها. يريد لحبات البيتزا الصغيرة أن تظهر بأفضل شكل ممكن. بعد قليل، ستدخل هذه الحبات على صدر كبير إلى الفرن لتخرج منه ساخنة يسيل الجبن الذائب عن وجهها.
حرارة الفرن عالية جداً وألسنة اللهب حارقة. في محاولة منه لعزل الحرارة عن الجيران في الطبقة الأولى، علق علي قطعاً من الإسفنج الخاص في سقف الفرن. ورغم الحرارة العالية، ورغم العرق المتصبب من جبين علي وعماله الثلاثة، كانوا جميعا يعملون بنشاط.
لولا زبون يشتري حبة من الشمام الأصفر لتبريد عطش يوم الصوم الطويل، لظن الناظر أن «السوق الشعبي» في المخيم مقفر.
خلال النهار، يكتظ السوق، الذي يشبه هنغارا عتيقا، بزبائنه. في السوق دكاكين للخضار، والفواكه، والفراريج، وملحمة تعاونية. يختلف السوق في مخيم برج البراجنة عن مثيله في شاتيلا، القريب من منطقة صبرا. هناك، حركة الشارين لا تهدأ إلا عند سماع أذان المغرب، بينما هنا تتوقف حركة الشراء باكراً.
تخدع ملابس محمد حسين الناظر إليه. قد يظنه للوهلة الأولى ممرضا. فملابسه البيضاء تشبه ثياب الممرضين. ووقوفه بها أمام مستشفى حيفا قد يزيد من التأكيد على هذه الفكرة. لكن أبا عمر ليس ممرضا بل هو حلواني.
يحضّر أبو عمر حلوياته من قطائف بالقشطة، والعثملية، والشعيبيات ويقليها في مساحة «على قد الحال» في زاوية من منزله.
لا يحرك أبو عمر عربته من مكانها قرب باب طوارئ المستشفى في آخر يوم العمل عند نفاد حلوياته، بل يتركها في مكانها، من دون ربطها بسلاسل حديدية حتى. العربة في مكانها «بأمان الله» منذ عشرين سنة، بحسب ما يوضح.
المراهق يسلّي الأطفال
هدوء مخيم برج البراجنة المفرط قبيل الإفطار ليس عاديا في بقعة صغيرة يعيش فيها الآلاف. والصمت الذي يخلّفه انقطاع الكهرباء مهيب. صمت يسمح للسائر بأن يسمع وقع دعساته على الأرض غير المعبدة. ورغم انقطاع الكهرباء المستمر خلال رمضان وفي غيره من الأيام، لا يشارك أهالي المخيم في التحركات الاحتجاجية التي تنظم على مقربة منه، على طريق المطار. فالـ«وضع الفلسطيني حساس»، كما يقول العارفون من بينهم. أما السماء من المخيم فتبدو بعيدة جدا. تفصل بينها وبين العين خطوط لا تنتهي من أشرطة الكهرباء والمولدات و«الساتيلايت» والانترنت. تلتف الأشرطة على قساطل المياه فتشكل شبكات عنكبوتية مخيفة تحجب رؤية العين عن كل ما هو فوق الرأس. وقد تحجب إنساناً عن الحياة. إذ سبّب تجاورها بوفاة عدة أشخاص في أماكن متفرقة نتيجة للصعقات الكهربائية.
في الزقاق الضيق، شبان صغار يلعبون «الكلل». يمررون الوقت قبل الإفطار في ظل انقطاع التيار الكهربائي ومصادر اللهو الأخرى. يقبض الواحد منهم على مجموعة من الكلل الملونة ويضع قبضته المغلقة في وجه رفيقه. على الشاب الثاني أن يخمن ما إذا كان عدد الحبات مفردا أو مجوزا. إذا أصاب، ربح «كلة». وإذا خاب، خسر «كلة». يعبق المراهق الأسمر بالخجل لدى رؤيته يلعب الكلل مع أطفال أصغر سنا منه. يقول إن هذه ليست لعبته لكنه يسلي الأطفال.
لن يهبط شيء من السماء
ارتفعت صور الممثلين الأتراك على لافتة دكان أبي سعيد للعصائر في ساحة جيش التحرير. للممثلين الأتراك شعبية كبيرة في المخيم. والساحة لا تشبه الساحة بمفهوم الناس العاديين إلا بالاسم فقط، فهي تكاد لا تتسع إلا لعدد أشخاص لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة. في زمن ولى، قبل ارتفاع عدد الأبنية المتلاصقة، كانت الساحة أوسع مساحة، وكان دكان السمانة الموجود اليوم فيها مركزا لجيش التحرير. تغير كل شيء اليوم. لم يعد هناك من ساحة، وغاب جيش التحرير.
«صوّر صوّر»، يصرخ الشاب الأربعيني الجالس على الكرسي. علامات الغضب بادية على وجه الشاب، ما يصعّب عملية التواصل معه. هو والد طفلين، ويعمل بلاطاً. ليس للشاب اسم. بمعنى آخر، لا يريد لاسمه أن يظهر. يقول إنه يشبه حالة متكررة في المخيم. المنزل الذي يعيش فيه الشاب تفتت اسمنته وبان حديد أساسه فبات مهددا بالسقوط. يروي قصته وينظر إلى الأعلى كمن ينتظر أن يهبط عليه الحل من السماء. وفي ظل ارتفاع الإيجارات، والبطالة الموسمية، والتردي الاقتصادي، لا يبدو أن شيئا سيسقط من السماء عما قريب.
لقمة حب من يد أبي ربيع
في البناء المخنوق في حارة أهل شعب، درجات السلم عالية. كلما صعدنا درجة تصير التي فوقها أكثر ارتفاعا من سابقتها، ويصير رواق السلم أضيق، وتقترب الجدران بعضها من بعض. لكن ضيق السلم لا يشبه القلب الواسع الذي يستقبل به صالح عودة ضيوفه خلال الإفطار.
يسارع أبو ربيع، الستيني، إلى إحضار الأكواب وصب الماء البارد قبل أن تصل أطباق الطعام. طفلان صغيران عاريا الصدر يجولان ببنطاليهما في المنزل. هما حفيدا أبي ربيع. وأبو ربيع الذي يعشق الأطفال، لطيف في التعامل مع أحفاده، ذكورا وإناثا. غرفة الجلوس تتسع للعائلة الكبيرة. أبو ربيع وزوجته وأبناؤهما وبناتهما وأحفادهما وكائنا من طرق الباب من الضيوف.
تجتمع العائلة خلال شهر الصوم بشكل يكاد يكون يوميا. يحضر خلال الإفطار جميع الأبناء والبنات، متزوجين وعازبين. على الأرض تفرش أوراق الصحف. الجرائد هي شرشف مائدة الصائمين الذين يتربعون على الأرض. المائدة شهية. أم ربيع طهت الطعام مع بناتها. تضم مائدة الأرض أصنافا متنوعة من الدجاج المقلي والمشوي، والكبة، والسودة النيئة، والسلطات، والمخلل.
ينقطع التيار الكهربائي. تتزين الأرض بالشموع. دقائق ويعود. ليس لانقطاع التيار وعودته أي نظام. يغيب عبثيا ويعود فجأة. وعلى ناس المخيم أن تتعود هذا النمط من الحياة.
عبثية ومفاجأة لا يخفف من وطأتهما إلا اللقمة التي تحمل حب العائلة كلها في منزل أبي ربيع.

» صور زيارة الدكتور احمد مجدلاني لمخيم نهر البارد
» الأسير المحرر تيسير سليمان في زيارة لمخيم الجليل
» زيارة نائب مدير الاونروا في لبنان لمخيم الجليل في البقاع
» زيارة الامين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني لمخيم شاتيلا
» السفير الدكتور عبدالله عبدالله في زيارة لمخيم الجليل - بعلبك