أضواء على حياة الشاعر الشهيد البطل عبد الرحيم محمود ' أبو الطيب
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]من يتطرق لمثل هذه الشخصية الوطنية الحافلة بالعطاء والمحطات الهامة يجب أن يكون ملما بكثير من خفايا ها ، لأن كل محطة من حياته تصلح أن تكون منهاجا للحياة لثرائها .. ولا عجب أن حصل الكثير من الطلاب العرب والفلسطينيون على أعلى شهادات ' دكتوراة ' حول مباحث معينة من حياته الثرية بعشق الوطن .
لربما كان الشاعر المجاهد الشهيد البطل عبد الرحيم محمود هو الشخص الوحيد الذي جمع بين القول والفعل ، ما يؤكد شدة ايمانه بما كانت تتقرح عنه موهبته الفذة من شعر راقي ، واحساس مرهف يبث الوطنية في كل بيت من أشعاره ،
ونحن هنا نحاول - بتواضع شديد - أن نتعرف على جزء بسيط من مسيرة هذا الشهيد العملاق ، الذي أصبح ولا يزال مدرسة بل جامعة لطالبي تعلم الاباء والعز والوطنية الحقة ، ونعرف أننا مهما حاولنا فلن نفيه جزءا بسيطا من حقه علينا ، ولكنها تظل محاولة علنا نفيد بها بعض المتلهفين لمعرفة شيئ عن حياة هذا الشهيد الشاعر البطل رحمه الله .من هو الشاعر عبدالرحيم محمود:-
هو أبو الطيب عبد الرحيم بن محمود، ولد عام 1913م بفلسطين لأبٍ عالمٍ جليلٍ هوالشيخ محمود، الذي كان مثالاً للصمود والتحدي ومواجهة الظلم والظالمين، وكان بالمرصاد لكل رذيلة حتى مات عام 1919م، ومن هذا الأب العظيم انحدر الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، فرُبِّيَ طفلاً على قيم الجهاد وبُثت فيه روح الثورة، وتولَّى أساتذته في مدرسة النجاح تهيئتَه وإعداده، ومنهم أستاذُه: إبراهيم طوقان، الذي نمَّى فيه وفي زملائه روح الجهاد الأبيّة لقتال البريطانيين والصهاينة، ثم تخرَّجَ عبد الرحيم محمود في تلك المدرسة، وعمل بها مدرسًا للأدب العربي يربِّي رجالاً ويُعِدّ أبطالاً حتى تركها؛ ليشارك في معارك ثورة عام 1936م.
عاش عبد الرحيم محمود حياته كلها في النصف الأول من القرن العشرين (من 1913 ـ 1948)، وهي فترة مملوءة بالأحداث الجسام في تاريخ العالم الإسلامي المعاصر، بدءا بإلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924، واحتلال الإنجليز والفرنسيين للعراق وسوريا الكبرى (سوريا ولبنان وفلسطين) (1917 ـ 1920)، وصدور وعد بلفور 1917، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين 1922، وقيام الثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936 ـ 1939)، وانتهاء برحيل الإنجليز عن فلسطين وقيام الدولة الصهيونية 1948.
قبل ثورة عام 1936م كان جهد عبد الرحيم محمود مقصورا على العمل السلمي، خاصة في مدرسة النجاح التي عمل فيها مدرسا للأدب العربي، حيث كان يبث في تلاميذه روحًا مُحِبَّةً للدين عاشقةً للوطن.
وبعد اندلاع الثورة بدأ الجهاد بالسلاح، فاشترك في المعارك التي دارت أثناء تلك الثورة حتى أصيب.
وفي عام 1939م اضطر ـ تحت ضغط الاحتلال والمطاردة ـ أن يهاجر إلى العراق بعد استشهاد القائد المجاهد 'عبد الرحيم الحاج محمد'، وتضييقِ الخناق على الثوار، فالتحق بالكلية الحربية في بغداد، وتخرج فيها ضابطًا، وواصل جهاده للإنجليز هناك، وكان أحد رجال ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، لكن هذه الثورة أخفقت، فعاد في نفس العام إلى فلسطين، وتزوج عبد الرحيم محمود بابنة خاله، وأنجب منها.
خَلَّف عددًا من القصائد كتبها بين عامي 1935م، 1948م.. جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية.
وصدر ديوانه في عَمَّان عام 1958م وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة. هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح.وفي عجالة نلقي ضوءًا على آرائه الوطنية التي صاغها شعرًا وعاشها حياة، فاستحق أن يكون مثلاً أعلى لشباب فلسطين في الكفاح والصدق..
في 14 أغسطس 1935م زار قرية عنبتا الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية (الملك سعود فيما بعد)، فألقى عبد الرحيم بين يديه قصيدة وكان عمره اثنين وعشرين عامًا قال فيها:
يا ذا الأمير أمام عَيْنِـك شاعرٌ
ضُمَّت على الشَّكوى المريرة أَضْلُعُهْ
المَسجد الأقصى أَجِئْتَ تَزُورُه؟
أم جئـت من قِبَلِ الضِّبَـاع تُوَدِّعُهْ؟
حَـَرمٌ مُبـاحُ لكـل أَوْكَعَ آبقٍ
ولكـلِّ أَفَّــاقٍ شـَرِيدٍ، أَرْبُعُه
وغدًا وما أدناه، لا يبقى سوى
دَمْعٍ لنـا يَهْمَـي وَسِـنٍّ نَقْرَعُه
وهنا يتضح بُعْدُ نظر الشاعر الشاب ورؤيته الواقعية للظروف العربية شعوبًا وحكامًا.
وفي قصيدته (الشهيد) وكان عمره حوالي أربعة وعشرين عامًا يُصَوِّرُ الشهيد كما يتمنَّاه:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياةٌ تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشـريف لها غـايتان
ورود المنـايا ونيـلُ المنى
لعمـرك إنـي أرى مصرعي
ولكـن أَغُـذُّ إليـه الخطى
أرى مقتلي دون حقي السليب
ودون بلادي هـو المُبتـغى
يَلَذُّ لأذني سـماع الصليــل
يُهَيِّجُ نَفْسِي مَسِـيلُ الدِّمـا
وجسـمٌ تَجَدَّلَ فوق الهضـاب
تُنَأوِشُـه جَـارِحات الفَـلا
فمنـه نصيـبٌ لِأُسْـِد السَّما
ومنه نصيب لأسـد الشَّرَى
كسـا دَمُهُ الأرضَ بالأُرْجُوَان
وأثقل بالعطر رِيْـحَ الصَّـبا
وعَفَّـر منـه بَهِـيَّ الجَـِبين
ولكن عُفـارًا يـزيـد البَـها
وبَانَ علـى شَفَتَـْيه ابْتـسام
مَعـانِيْهِ هُـزْءٌ بِهـذِي الدُّنـا
ونام لِيَحْـلُمَ حُلْـمَ الخـُـلودِ
ويَهْنَـَأ فيـه بِـأحْلَى الرُّؤى
لَعَمْرُكَ هذا ممـات الرجـال
ومن رَامَ موتـًا شـريفًا فَذَا
وقد اختار الشاعر قافية المَدِّ أيًّا كان الحرف الأخير لهذه القصيدة الرائعة التي تصور ممات الرجال الشرفاء من أجل الوطن، فالتلذذ بأصوات المدافع والبهجة بإسالة الدماء تُهَوِّن على الشرفاء الموت من أجل قضية كبرى يُدافِع عنها ألا وهي تحرير البلاد والاحتفاظ بكرامتها..
وفي قصيدته (دعوة إلى الجهاد) يقول مستهترًا بالموت فداء للوطن:
دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد
فَخَفَّ لِفَرْطِ فَرْحَتِه فؤادي
وَسابَقْتُ النَّسِيمَ ولا افتخارٌ
أَلَيْسَ عليّ أن أَفْدِي بِلادِي
حَمَلْتُ عَلَى يَدِيْ رُوحي وقلبي
وما حَمَّلتُها إلا عتادي
فسِيْرُوا للنِّضَالِ الحقِّ نارًا
تَصُبُّ على العِدَا في كل وادِ
فليس أَحَطُّ من شَعْبٍ قَعِيْد
عن الجَلَّى وموطنه ينادي
وتظل قصائد عبد الرحيم محمود تتوالى مُعَبِّرَةً عن حبه لوطنه وإصراره على التضحية من أجله..
وبقيت فلسطين خاضعة للاحتلال الإنجليزي الذي جاءه ما يشغله؛ إذْ دخل حربًا عالمية طاحنة في مواجهة دول المحور. بدافع إسلامه وعروبته ونشأته وإقامته في فلسطين، كان بيت المقدس دائمًا في خاطره، في كل موطن جاهد وقاتل فيه، داخل فلسطين وخارجها، ولقد صيَّرَ من الأرض المقدسة كتلةً متوهجة في قلب وضمير كل مسلم بما أرسله من عذب شعرِه الرصين.
ومما قاله مخاطبًا المسلمين عامةً وأهلَ فلسطين خاصة:
قل: لا، وأتبِعْها الفِعَالَ ولا تخفْ
وانظر هنالك كيف تُحنى الهامُ
اصهر بنارك غُلَّ عُنْقِكَ ينصهر
فعلى الجماجم تُرْكَز الأعلامُ
وأقم على الأشلاء صرحك إنما
من فوقه تُبنى العلا وتقامُ
واغصِبْ حقوقَك قَطُّ لا تَسْتَجْدِها
إن الألى سلبوا الحقوق لئامُ
هذي طريقك للحياة فلا تَحِدْ
قد سارها مِنْ قبلك القَسَّامُ
نال عبد الرحيم محمود تدريبا عسكريا في عام 1948م، وانضم إلى جيش الإنقاذ العربي معاونا لقائد فوج حطين، الذي أشعل الأرض نارًا في وجه اليهود في معارك عديدة وقطاعات مختلفة، حتىجاءت معارك قرية الشجرة في قضاء طبريّة بالقرب من مستوطنة 'إيلانيا سَجيرا' اليهودية؛ ففي فبراير من عام 1948م قُطعت المواصلات المؤدية إلى المستوطنة، واتسع نطاق المعارك ليتحول في أبريل من العام ذاته إلى معارك عنيفة للغاية، ازدادت ضراوتها بإعلان قيام دولة إسرائيل في مايو 1948ودخول قوات من الجيوش العربية إلى فلسطين بجانب المجاهدين الفلسطينيين، وفي البداية كانت كِفّة العرب راجحة بوضوح، وبدأ اليهود يتراجعون تحت ضغط ومطاردة الجيوش العربية، في حين قامت المدفعية العربية بقصف مستوطنة 'سجيرا'، وأصبح المقاتلون العرب على أبوابها.. وهنا أُوقف القتال تنفيذًا لاتفاقية الهدنة الأولى، التي استغلها اليهود في تقوية دفاعاتهم ومضاعفة تسليحهم، وبانتهاء تلك الهدنة قامت القوات الصهيونية بهجوم كبير على منطقة الشجرة مستخدمة ـ لأول مرة ـ الطائراتِ والمدفعية، فتساقط الشهداء العرب، وبدأت ذخيرتهم في النفاد، وظهرت احتمالات انسحاب القوات العربية من منطقة الشجرة مما سيؤدى إلى سقوط الناصرة، فلجأ العرب إلى هجوم كبير مضاد مكّنهم من رد اليهود والسيطرة على منطقة الشجرة، لكنهم تكبدوا خسائر فادحة، منها: إصابة قائد فوج حطين بجراح بالغة، واستشهاد أحد معاونيه وهو المقاتل الشاعر عبد الرحيم محمود، يوم الثالث عشر من يوليه عام 1948.
يقول الملازم عبد الرازق المالكي ـ من أفراد جيش الإنقاذ الذين حضروا المعركة: 'تقدم أبو الطيب عبد الرحيم محمود بأفراد سَرِيته وأدار المعركة، وكسر الطوق عن العرب المحاصَرين، وأصيب بقنبلة أثناء الزحف، وفارق الحياة بعد أقل من ربع ساعة، وسحبناه على الأرض وسط رصاص المعركة الكثيف إلى قرية 'طوعان' القريبة، ونقلناه منها في سيارة عسكرية إلى الناصرة، وشُيع جثمانُه من المستشفى إلى المقبرة الإسلامية فيها'.
يذكر أن شاعرنا المجاهد البطل الشهيد هو والد الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة ، والذي أخذ عن الشاعر الشهيد الكثير من الخصال الكريمة كحب الوطن والبلاغة ،و الحنكة الساسية والحكمة ....رحم الله الشهيد الشاعر البطل أبا الطيب وأسكنه فسيح جنانه