فلسطينية تعاني الفراق أكثر من ربع قرن وحلمها أن تحتضن ابنها قبل الموت

للوهلة الأولى تعتقد أنها كغيرها ممن في السبعينات من عمرهن لكن التأمل في محياها يجعلك تتوه في تفاصيل الزمن التي تختبئ في تجاعيد وجهها تحملك قوة إرادتها وما في روحها من صلابة لأن تبحث عن كينونة شخصيتها ومكنون ذاتها لتكتشف بمجرد السؤال أنها عميدة أمهات الأسرى أو باختصار من فارقت ابنها لأكثر من ربع قرن...
حكاية الاثنين :
غالية بارود"70 عاما" أو الحاجة أم إبراهيم كما ينادونها وكما هي تحب ليس لأن إبراهيم ابنها الأكبر بل لأنه حبيب الروح الغائب خلف قضبان الاحتلال منذ أكثر من أربعة وعشرين عاما ولعلها تخشى غيابها الأبدي "الموت" دون أن تروي شوقها بضم إبراهيم إلى حضنها..
في مخيمات اللجوء قضت أم إبراهيم جل عمرها حيث الشوارع والأزقة التي تبتلع قصص مئات النساء لكن لهذه العجوز قصة حفظتها الطريق من مخيم جباليا حيث تسكن إلى مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمدينة غزة حيث الاعتصام الأسبوعي لأهالي الأسرى وحيث كان جزء من حديثنا معها هناك.
"لم أمل ولن أمل وسأكون هنا كل اثنين أول الحاضرات" لم يكن هذا رد أم إبراهيم ما إن كانت ستواظب على الاعتصام أم لا بل هل ستستمر حتى عندما ينهي ابنها محكوميته بعد ثلاث سنوات مضيفة:" أنا أعتصم من أجل كل الأسرى ومن أجل قضيتنا الفلسطينية ولو لم يبق في السجون الإسرائيلية إلا أسير واحد ستجدونني هنا كل اثنين".
العشرات من النساء المعتصمات التففن حول أم إبراهيم فهي عميدتهن بعد الحاجة أم جبر وشاح التي سلمت اللقب لأم إبراهيم بمجرد الإفراج عن ابنها جبر "فلقب عميدة أمهات الأسرى ينتقل تلقائيا للأم التي يقبع ابنها الأسير داخل السجون المدة الأطول مقارنة ببقية الأسرى" لتظل الاثنتان ملازمتان لبعضهن البعض على ذات المقعد الخشبي منذ أكثر من عشر سنوات عندما أسسن سويا الاعتصام الأسبوعي لأهالي الأسرى أمام الصليب الأحمر..
أنا خطرة أمنيا
اعتقل إبراهيم" 48 عاما" منذ أن كان في العشرينات من عمره حيث حكم عليه بالسجن "27" عاما قضاها بعيدا عن حضن عائلته وأمه التي حرمت ومنعت من زيارته منذ 14 عاما وعن السبب ضحكت أم ابراهيهم وقالت" أنا خطرة أمنيا" تنهدت وأضافت": هذه هي حجة المحتل في منعي ومنع عشرات الأمهات من زيارة أبنائهن داخل السجون فمن ليس له تهمة محددة يدعون انه خطر على أمنهم".
وتتساءل أم ابراهيهم بسخرية:" عجوز مثلي لا تقو على الحركة ماذا ستفعل لأمن من يحملون البنادق" لتجيب على نفسها بنفسها": أنا لست خطرة لكنهم يريدون حرق قلبي على ابني يعذبون جسده داخل المعتقلات ويعذبون روحي خارجها".لا تحلم أم إبراهيم بأكثر من دقيقة يرتمي فيها ابنها البكر في حضنها دون قضبان أو قيود سجان حيث تنتظر الثلاث سنوات المتبقية من محكوميته بفارغ الصبر وتتمنى من الله عز وجل أن يطيل عمرها لتشهد تلك اللحظة التي تترقبها على أحر من الجمر.
توأمه أصبح جدا :
بعد لحظات قليلة جدا من ولادة إبراهيم سمعت الحاجة غالية صرخات أخوه التوأم "محمد" قضى الاثنان عشرين عاما في حضنها حتى سرق المحتل إبراهيم وواراه المعتقل لكن محمد ومن يصغرونه عمرا من أبناءها لم يكفلوا لها راحة البال في غياب إبراهيم فهم كما تصف " لم يعوضوها غيابه" قائلة :" لو كل الدنيا في حضني ما في شيء في الدنيا يعوضني غياب ابني إبراهيم حتى أخوه التوأم".
الكثير والكثير من الشبه يجمع التوأمين إبراهيم ومحمد حتى أن بعض الناس يلتقون محمد في الشارع فيسلمون عليه بحرارة معتقدين أنه ابراهيهم وقد خرج من السجن لكن هذا الشبه لم يخفف من وجع غياب إبراهيم الذي تتحسر أمه على شبابه الذي قضاه في السجون وأخيه التوأم قد تزوج وأنجب تسعة أبناء وأصبح جدا..
الحديث هنا أضفى لمعة في عينيي أم إبراهيم إنها الدموع المخنوقة في عينيها وهي تقول:" نفسي أفرح بابني وأزوجه وأشوف أولاده والله حرام زهرة شبابه تضيع داخل السجن".
العميدة :
في سجن عسقلان يقبع إبراهيم بعيدا عن هذه السيدة الفلسطينية "غالية" لكن التخاطب الوجداني والروحي بينها وبين نجلها وكل الأسرى جعلها تحمل هما وطنيا ثقيلا انه باختصار إيصال صوت الأسرى للعالم.
بثوبها التراثي الأسود المطرز تجلس أم إبراهيم كعادتها يوم اثنين ومن حولها أهالي الأسرى التي قلما تشهد تواجد غيرهم في هذا الاعتصام إلا في المناسبات ما يثير أسفها حيث تقول:" شيء مؤسف جدا أن يقتصر الاعتصام الأسبوعي على أمهات وزوجات وأبناء الأسرى حيث لا نرى وجوداً للمسئولين إلا في المناسبات التي يسعون إليها للظهور أمام عدسات التلفزيون والفضائيات" مؤكدةً أن العالم كله يعرف بقضية الجندي الصهيوني "شاليط" في حين يقبع أحد عشر ألف أسير في سجون الاحتلال لا يعرف أحد في العالم حقيقة المعاناة التي يتكبدونها إلا ذويهم أو من تجرعوا مرارة الأسر مثلهم.
ومن هنا يبرز دور العميدة في التواصل مع أهالي الأسرى من جهة ومع اللجنة الدولية للصليب الأحمر من جهة أخرى لبحث أوضاع الأسرى وإيصال أصواتهم وشكواهم أملا في التخفيف ولو شيئا من معاناتهم فهي خير من يتحدث بلغتها البسيطة ولهجتها العامية وكلماتها الصادقة عن هموم الأسرى وأهاليهم في المناسبات واللقاءات والبرامج الإذاعية والمرئية.
نساؤنا رحم القضية :
نجح الاحتلال بصورة لا شك فيها أن يمنع الحاجة أم إبراهيم من زيارة ابنها وتكبيلها عن الوصول إليه لكنه لم يمنع عميدة أمهات الأسرى من الحديث والحديث وفضح جرائم الاحتلال بحق الأسرى.
فالعجوز السبعينية بآلامها وأوجاعها وهمومها تحشد أمهات الأسرى من حولها فقد منحت يوما لقب "الناطقة باسم الأسرى" ولا عجب في أن تكون امرأة ولو كسى الشيب رأسها فالقضية الفلسطينية على حد وصفها تحتاج المرأة قبل الرجل في النضال ضد الاحتلال قائلة:" النساء الفلسطينيات هن رحم القضية الذي ينجب الأبطال والرجال شهداء كانوا أو أسرى أو مقاومين فبدون المرأة سيصبح هنالك خلل في الموازين".مضيفة:" قد لا نستشهد لكننا ندفع أبنائنا للشهادة وقد لا نؤسر لكن تربيتنا الوطنية لأطفالنا منذ صغرهم كانت سببا في أن يصبحوا الآن خلف القضبان".
وترى عميدة أمهات الأسرى أن الدور النضالي للمرأة في مختلف مراحل القضية الفلسطينية لم يكن دورا تقليديا أو بسيطا مؤكدة أن مجرد منع النساء من زيارة أبنائهن وأزواجهن وآبائهن في السجون دليل على خوف المحتل من المرأة الفلسطينية فهي لا تحمل بندقية عندما تتوجه إلى المعتقل لتزور ابنها لكنها تحمل فكرا وإيمانا تعبئ به الأسرى وتدعم صمودهم وهذا ما يخافه المحتل.
وللأسيرات تحية :
بساطة الحديث مع إبراهيم قد يدفعنا أحيانا لأن نضع مفردات اللغة الفصحى جانبا لننقل كلامها الشعبي السلس كما هو فليس أبسط وأقوى من قولها:" شو في تضحية أكثر من انه الست الفلسطينية تنام وراء القضبان بعيدة عن زوجها وأولادها وأهلها يعني بالمختصر كل تضحية النساء كوم وأسيراتنا كوم تاني".
حديث أم إبراهيم عن تضحية المرأة الفلسطينية كان دافعا لان تركز على قضية الأسيرات البالغ عددهن ما يقارب من 34 أسيرة وما يتعرضن له من انتهاكات في السجون الإسرائيلية.
تقول أم إبراهيم :"لا تقل معاناة الأسيرات عن الأسرى داخل السجون بل على العكس كونهن نساء فهذا يعني أن المعاناة تتضاعف خاصة عندما نتحدث عن طرق التحقيق الجسدية والنفسية والتفتيشات الاستفزازية من قبل إدارة السجون".مضيفة :" هناك طبعا خصوصية للحوامل منهن من بينها الإهمال الطبي للحوامل والتكبيل أثناء الولادة عدم الاهتمام بأطفال الأسيرات الرضع وحاجاتهم وانتزع أبنائهن منهن بعد فترة من الزمن".
تقول أم إبراهيم بلهجتها العامية :" الله يعينهن يا بنيتي أنا بره السجن والحياة كلها حوالي وبينحرق قلبي على ابني الشاب الكبير كيف أكون جوه السجن ويتاخد مني ابني اللي بيرضع بالقوة الله يكون إلهن معين"..سكتت قليلا تنهدت ثم أضافت:" الله يعين كل الفلسطينيات.. الله يعين كل الشعب الفلسطيني".

» مرض السرطان ينال من عائلة فلسطينية بأكملها ويقضي على اثنين منها والبقية ينتظرون الموت..ولاحياة لمن تنادي
» أكثر من 110 منظمة أهلية فلسطينية تؤكد دعمها للتوجه للامم المتحدة
» نعلين تحتضن فعاليات اليوم الثاني لمؤتمر فلسطين للمقاومة الشعبية
» لقاءات فلسطينية ـ فلسطينية مرتقبة في القاهرة لبحث تطبيق اتفاق المصالحة
» غزة: عائلة بصل تناشد لمعرفة مصير ابنها المختطف لدى حماس