'إثنا عشر سجيناً لبنانيا غاضباً يفرّون إلى رام الله'

فرَّ إثنا عشرَ سجيناً لبنانيا، من سجن 'رومية' شرق العاصمة اللبنانية بيروت، إلى مدينة رام الله في فلسطين، وباحوا بأسرارهم لجمهورهم الفلسطيني، مصطحبين معهم أحلامهم وهمومهم.
هذا المشهد لم يكن واقعيا، بل عملاً دراميا، حمل اسم '12 لبنانيا غاضباً'، أبطاله كانوا خمسة وأربعين أسيراً لبنانيا وعربيا، دارت أحداثه في سجن 'رومية' في الضاحية الشرقية من العاصمة بيروت، وأخرجته الفنانة الشابة زينة دكاش.

أجسادهم بقيت هناك، احتجزتها الزنازين، ومنعتها الحدود، لكن عملهم السينمائي الوثائقي المميز، الذي حوّل حياتهم، وغير نمط تفكيرهم، كان حاضرا وبقوة، في إطار فعاليات مهرجان القصبة السينمائي الدولي الخامس.

السجناءُ لَم يفروا إذن، بل فرَّ فيلمهم إلى خشبة مسرح وسينماتك القصبة الليلة الماضية، وفاضت مشاعرهم على مدرجات المسرح الذي غص بالحضور، فقاسمهم الهَم، وشاركهم الإنجاز المتمثل بأول عمل سينمائي أبطاله سجناء.

ويعكس الفيلم، تجربة قادتها دكاش لمدة خمسة عشر شهرا في أزقة وزوايا سجن 'رومية'، مع خمسة وأربعين سجيناً، بعضهم لا يعرف القراءة والكتابة، لإعادة إنتاج المسرحية الشهيرة '12 رجلا غاضبا'.

ووجد السجناء لأول مرة منبرا للتعبير عن أنفسهم من خلف القضبان، ومساحة للإبداع، حولتهم في النهاية إلى مجموعة من الممثلين المحترفين البارعين، يقدمون فيلما صادقا عن حياتهم، وعن التأثير الإيجابي للعلاج الفني على مجموعة من المجرمين الخطرين في لبنان.

وتدور أحداث الفيلم حول جوانب شخصية متعددة لحياة السجناء، وتعكس بشكل واضح مدى التغيير الذي أحدثه العمل على إنتاج المسرحية في حياة كل واحدٍ منهم، من خلال مقارنة متميزة بين حياته قبل العمل وبعده.

ويستعرض العمل التهم الموجهة لكل واحد منهم، والجوانب السلبية والإيجابية في حياته، ويظهر ما يملكه كل سجين منهم من مهارات وطاقات دفنها السجن لمسافات عميقة، منها الشعر والقيادة والخطابة والغناء.

ويختار كل سجين من طاقم العمل، شخصية تتناسب تماما مع شخصيته، من خلال أدوار المسرحية، إثنا عشر ممثلا رئيسياً، إلى جانب آخرين خلف الكواليس، من فنيين ومنتجين ومُعدين، تشرف عليهم جميعا المخرجة دكاش.

ويظهر الفيلم المشهد على حقيقته، عمل مسرحي ينتج في أزقة السجن، مع كل الانفعالات والخلافات والتناقضات، ويسلط الضوء بشكل دقيق على التغيرات التي تحدث في شخصية كل سجين مع تقدم العمل على إنتاج المسرحية.

السجناء الخمسة والأربعون، عملوا على كل صغيرة وكبيرة في المسرحية، الديكور، والمعدات التقنية، وصولا إلى تأليف الأغاني وتلحينها وأدائها على آلات موسيقية مختلفة، ليصبح العمل جاهزا للعرض، ويخرج في صورته الأولى أمام الجمهور، ويعرض فعلا أمام مسؤولين لبنانيين، وأهل السجناء وذويهم.

في الدقائق الأخيرة من الفيلم، تركز دكاش على المشاعر التي انتابت السجناء الفنانين قبل وبعد عرض المسرحية، وتستخدم عرضا لشهاداتهم عن تجربتهم التي استمرت خمسة عشر شهرا في عمل المسرحية.

الفيلم الذي يدور عن إنتاج مسرحية '12 لبنانيا غاضبا'، والتي تدور أحداثها حول هيئة محلفين في قضية طفل يقتل أباه، يقود عناد أحد المحلفين إلى فتح ملفات القضية، أثمر عن تفعيل قانون قضائي خاص لمصلحة السجناء، وعن استمرار العمل في مشروع استخدام المسرح في تأهيل السجناء.

العرض عكس جانباً إنسانيا مهماً، وهو أن خطأ السجناء لا يعني نسيانهم ليموتوا نفسيا في زوايا السجون، وضرورة استثمار ما يملكه السجناء من مواهب وطاقات ظهرت جلية في إنتاج المسرحية، وهو ما أثار إعجاب الجمهور الفلسطيني بشكل كبير جدا.

الفنان الفلسطيني إدوارد معلِم، عبر عن إعجابه الشديد بالفيلم، وباستخدام هذه التجربة في إقحام العمل الفني والمسحري في الدعم النفسي وتأهيل السجناء، قائلا: 'هذه تجربة مميزة جدا، يجب أن تعمم ويستفاد منها، السجناء لديهم طاقات كبيرة، يمكن استغلالها ايجابيا، الفيلم يحمل الكثير من العبر والمعاني الإنسانية التي يجب أن نستفيد منها'.

وأضاف: 'السجناء جزء من المجتمع، وأن أخطأوا لا يعني أن يموتوا وأن يشطبوا منه، لدينا تجربة في هذا المجال، حيث عرضنا مسرحية '48 دقيقة لأجل فلسطين' في سجن داخل مدينة فلنسيا الإسبانية، وكان تفاعل السجناء رائعا وملفتاً'.

من جانبها، لفتت مدربة المسرح الفنانة فاتن خوري، إلى أن الفيلم يحمل الكثير من المعاني الإنسانية التي حركت مشاعر الحضور جميعا، مشيرةً إلى أنه يحمل رسالة واضحة بضرورة الاهتمام أكثر بمن هم خلف القضبان.

بدورها، أشارت الشابة تالا سليم، إلى أن ارتكاب الإنسان خطأ لا يعطي أحدا الحق في إلغائه، قائلةً: 'كلنا ممكن نغلط، بس الأكيد إنه الغلط إنك تلغي إنسانية شخص ما لمجرد خطأ ارتكبه، تستطيع أن تعاقبه، لكن ليس من حقك أن تلغي وجوده'.

وأضافت: 'المخرجة دكاش استطاعت أن تفعل ما لم تفعله السنين الطويلة التي قضاها السجناء في السجن، من تهذيب وتأهيل وإعادة صقل شخصياتهم، من خلال قدرتها على استخراج الإنسان المبدع والخلاق الموجود فيهم'.

وقالت سليم: 'أكيد أن الفيلم غير نظرتي للمفاهيم الثابتة الموجودة عنا، مدهش جدا الإبداع الموجود داخل كل إنسان، حتى لو ارتكب جريمة في وقت ما، وكيف أن تجربة سنة عملت إلي ما قدر السجن يعمله سنين طويلة'.

وأشار الفنان محمد أبو عزيزة، الذي يجمع بين العمل المسرحي والنفسي، من خلال عمله في دائرة الصحة النفسية في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، إلى الدور الكبير الذي يلعبه الفن في استفزاز الجوانب الايجابية والخير داخل شخصية الإنسان'.

وقال: 'الفن يساهم في استخراج طاقات الإنسان بشكل إيجابي، يستفز الخير داخل الشخصية، حتى لو كانت شخصية مجرم، وهو كفيل بتأهيل الإنسان من مجرم وتحويله إلى مبدع وخلاق، وهو ما عكسته دكاش من خلال عملها الرائع'.

مجرمون ولكن مبدعون وخلاقون، قادتهم زينة دكاش للإبداع، محكومياتهم متفاوتة، وتهمهم مختلفة، لكنهم في النهاية بشر، لديهم مشاعر، وعندهم الكثير من الطاقات التي يجب على العالم أن يلتفت لها، هي رسالة أوصلتها دكاش وسجناؤها الـ45 من خلال فيلم '12 لبنانيا غاضبا'.

ــ