وهذا نص المقال:
مثلما فشلت محاولات العدو الصهيوني في شل حركة الحجر الفلسطيني ومنعه من التحليق في سماء الانتفاضة، وتجريده من طاقاته الخارقة، فشلت أيضًا محاولات هذا العدو الغاصب في خنق أصوات الانتفاضة – أغنيات وأناشيد أطفال المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية المحاصرة، وآبائهم المعتقلين في السجون الصحراوية.. تلك الأغنيات والأناشيد التي تشكل الموسيقى التصويرية لملحمة الحجر الفلسطيني، والإيقاع المحبب، المواكب لمسيرته اليومية من مقالعه ومناجمه السخية، التي اشتهرت بها أرض فلسطين منذ العصور الغابرة ، منذ بدأ إنسان فلسطين الأول، إنسان كرمل، قبل مائة ألف سنة، في استعمال هذا السلاح ضد وحوش الغاب وآكلي لحوم البشر ومصاصي دمائهم – إلى سلال الفاكهة المجدولة من أحلام وآهات عشاق الوطن، والمملوءة بدلاً من العنب والتين بالحجارة ذات الأشكال الإبداعية الرائعة.. من المحجر إلى السلة في أيدي العجائز إلى أكف الأطفال الجسورين الذين لا يهابون الموت، ولتصبح الانتفاضة هذا المزيج الفريد من الحجر وأغنيات الأطفال والمعتقلين ودماء الشهداء.
لقد عبرت أغنيات الانتفاضة عن إصرار أهالي الضفة والقطاع على مواصلة مشوار التضحية والفداء مهما كان الثمن باهظًا. تقول إحدى الأغنيات:
انتفاضتنا عروسة
مهرها .. النفي أو الشهادة
والمعتقل الرهيب
وجراح الألوف
وتدمير المنازل
وأنهار الدموع.. والعرق
وأغنية "عرس الانتفاضة" المفعمة بالبطولة والحزن – كما يقول مراسل صحيفة الجارديان البريطانية في القدس إيان بلاك- تعتبر واحدة من أغنيات عديدة، كتبت من خلف قضبان معتقل أنصار-3 في صحراء النقب. وقد كتبها المتوكل طه رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الوطن المحتل- وتعتبر نموذجًا لفيض المشاعر الوطنية التي صاحبت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة والقطاع.
سجل تاريخي حافل
منذ صدور وعد بلفور سنة 1917 وحتى عام النكبة 1948 انعكس الكفاح الفلسطيني ضد الاستعمار والصهيونية على أناشيد فلسطين وأغانيها الوطنية التي ظلت تشكل منذ ذلك الحين ترمومترًا حساسًا يعطي القراءة الصحيحة لحرارة النضال الفلسطيني. فقد غنى أبناء فلسطين من شعر اسكندر البتجالي نشيد الجهاد:
يا فلســـــطين بـلادي فيك يحلو لي جهادي
أنت إن نادى المنادي لك روحــي وفـؤادي
يا فلسطين بلادي
وعندما استشهد الشيخ عز الدين القسام في غابة يعبد عام 1935 وهو يقارع العدو ، أنشد شاعر فلسطين الشعبي إبراهيم نوح قصيدته التي حفظها أبناء فلسطين عن ظهر قلب، والتي قال فيها:
عز الدين ياخسارتك رحت فدى لأمتك
مين ينكر شـــهادتك يا شهيد فلســــطين
عز الدين يا مرحوم موتك درس للعموم
ومع اندلاع ثورة 1936، والتي كانت معركة بلعا إحدى معاركها الكبرى أنشد محمود زقوت قصيدته الشعرية التي اكتسبت أهمية خاصة لأنها جاءت محاولة لتوثيق تلك المعركة:
أول معركة في بلعا كانت هي يـــوم الجمعة
استشهدوا فيها سبعة قتلاهم مش محصورين
وفي معركة الشجرة التي استعرت بين العرب واليهود عام 1948 واشترك فيها عبد الرحيم محمود مجاهدًا، كانت أبياته المجيدة التي رددها أبناء فلسطين يوم استشهاده في تلك المعركة أجمل تأبين له.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تســـر الصـــديق وإما ممات يغيظ العـــــــــدا
ونفس الشريف لها غايتــان ورود المنـــــايا ونيل المـنى
ومع اندلاع ثورة 1965 تفتحت قريحة الثوار عن معان وإبداعات جديدة في أناشيدهم الوطنية وأغنياتهم الشعبية التي اتسمت هذه المرة بسرعة الإيقاع وجسدت العمق الجديد الذي وصلت إليه المشاعر الثورية لدى أبناء فلسطين بفعل المعاناة المستمرة والتجربة الوطنية الطويلة في النضال:
أنا يا أخي
آمنت بالشعب المضيع والمكبل
فحملت رشاشي
لتحمل بعدنا الأجيال منجل
وجعلت جرحي والدما
للسيل والوديان جدول
دين عليك دماؤنا والدين حق لا يؤجل
ونشيد (خذ سلاحي) يروي قصة حقيقية لفدائي يقطر دمًا، سلم سلاحه لرفيقه في "جبل التياسير" بالقرب من مدينة نابلس، وهو أحد أحب الأناشيد إلى نفوس شعب فلسطين بسبب الشحنة الوطنية الهائلة التي تغلف أبياته المفعمة بالحماسة والإصرار:
يارفيقي خذ سلاحي
خذ سلاحي
ولتقاتل يارفيقي بسلاحي
دع دمي ينزف لا تربط جراحي
فأنا أعشق حتى الموت أرض الوطن
فلتعش يا وطني بسلاحي
أطلق النار فقد أطلقت ناري
ولتقاتل يارفيقي بسلاحي
إنا أوصيك بأن تطلع لي
شمس نهاري بسلاحي
الانتفاضة مرحلة جديدة
قلبت الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في الثامن من ديسمبر 1987 – كما يقول المتوكل طه- معايير الكتابة، ليس من حيث الشكل ، وإنما من حيث ما يجب أن يقال، وفي الظروف الحياتية الجديدة، حيث أصبح المعتقل هو المكان الطبيعي الذي يعيش فيه "شعراء الانتفاضة"، الذين رغم جميع أساليب القمع، استطاعوا أن يحولوا هذا المعتقل إلى "واحة من واحات الانتفاضة":
فنحن نواجه رمل المعسكر "بالأوف"
نكسر وحش الصحاري لا نكف عن الدبكات
ونغمر هذا الصدى بالغناء
وأيضًا يقول المتوكل في هذا المعنى:
وعلى رمال الجمر في (أنصار)
غنينا طويلاً
للطيور السابحات، لجرحنا
للعوسج المنشور خلف"النشيد"
للا نداء، للصحراء، للعشاق
ياليلي وياسعدي
يا غزالاً راكضًا في الريح
لا تسكن فداءًا
قد نعوده الشرووعندما صدم المتوكل بصمت "ذوي القربى" عندما تركوه يناضل عدوًا شرسًا بمفرده، وهو الأعزل إلا من حجارة لم يجد سواها وهو يواجه ذلك العدو المزود بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة قال، والمرارة تعتصره:
متى إذن
لا تستحق ندائي المجروح
أو تعلم من فلسطين الرجولة
وانظر الأطفال ماذا يفعلون
فالأرض استعادت من جراحهم الصواب
أمل.. وبطولة
لم يكتب المعتقلون كل ما صدر من أدب الانتفاضة، ولكن معظم ما كتب حتى الآن خرج عند خطوط المواجهة مع العدو، استنادًا إلى الحقيقة القائلة بأنه إذا لم يكن القلم في قوة الحجر، فإنه في استطاعة الكاتب – الشاعر بشكل خاص- أن يلعب دورًا مساندًا للحجر، وهكذا، فقد بدأت مئات القصائد، والقصص القصيرة التي جاءت إفرازًا من إفرازات الانتفاضة لتعكس فصلاً جديدًا من فصول النضال الفلسطيني، فصلاً مليئًا بمعاني البطولة والأمل، وحيث يشكل هذا الثنائي معينًا تنهل منه الانتفاضة.
وحول خصائص هذا الأدب الانتفاضي يقول إيان بلاك : "هو أدب قد يكون بعيدًا أن يوصف بالعظمة، أو أن يكون له تأثير أكثر من تحريك المشاعر، ونفر الدماء في العروق، لكنه يظل محكومًا بشرطين – كما يقول الأستاذ علي الخليلي – المحرر الأدبي في صحيفة الفجر – أن يكتب بحذر بالغ، وأن يعمل على إبراز الوجه المضيء للانتفاضة.
وفي بعض الأعمال المتميزة، نلاحظ أن ذلك النوع من النظم الشعبي قد أتاح المجال أمام الشعراء المناضلين لاستخدام أبجدية تتسم – إلى جانب الحذر- بالاقتصاد في استخدام الكلمات. ويبدو أن "العسكرية" و"الحماس" كلاهما يتطلب كلمات أقل في التعبير عن مضامينه.
لقد أفرزت الانتفاضة على مدى العامين والنصف الأخيرين كمًا هائلاً من الأشعار التي تستند إلى مثل هذا النوع من القصائد التي لا تتقيد بالشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، والذي يسمى في ذلك الإطار الشعبي الذي يميزه بالزجل الذي يبدو قريب الشبه بشعر الربابة.
ولأن الشعر العربي ظل يشكل دائمًا سجلاً تاريخيًا للأحداث التي تمر بالأمة، فإن أدب الانتفاضة – من هذا المنطلق- يمكن النظر إليه على أنه صوت الانتفاضة.
كما هو موجع أن يكون حالنا بالأمس أفضل من حالنا اليوم، وأن نجتر ذكريات الزمن الجميل بعد أن أصبح أبناء شعبنا في الأراضي المحتلة والمحاصرة وأيضًا في المنافي يتحلون بفضيلة الصمت والجبن وترك الساحة للمنتفعين وتجار القضية.
* --- -
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]