منتـــــــــــــــــــدى الــنضــــــــــال الـفلســـطـــــــيـني
مرحبا بك في منتدى النضال الفلسطيني

لتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من الاخبار العربية والدولية ساعه بساعه, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.
منتـــــــــــــــــــدى الــنضــــــــــال الـفلســـطـــــــيـني
مرحبا بك في منتدى النضال الفلسطيني

لتتمكن من الإستمتاع بكافة ما يوفره لك هذا المنتدى من الاخبار العربية والدولية ساعه بساعه, يجب عليك أن تسجل الدخول الى حسابك في المنتدى. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه.
منتـــــــــــــــــــدى الــنضــــــــــال الـفلســـطـــــــيـني
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أخبـــــــــــــــــــار فــلـسطــــــــــــــــين والنـــــــــــــــــــضال
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
(لا يهمني متى أو أين أموت,لكن همي الوحيد أن لا ينام البرجوازيين بكل ثقلهم فوق أجساد أطفال الفقراء والمعذبين, وأن لا يغفو العالم بكل ثقله على جماجم البائسين والكادحين)
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» مجدلاني: الحل السياسي بسوريا سيعيد الاعتبار لاولوية القضية الفلسطينية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 19 ديسمبر 2015, 3:02 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي تدين قتل الشابين احمد جحاجحة وحكمت حمدان
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 17 ديسمبر 2015, 3:19 pm من طرف montaser

»  جبهة النضال برفح تلتقي بقيادة حركة حماس بمناسبة ذكرى انطلاقتها
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 17 ديسمبر 2015, 3:15 pm من طرف montaser

» وفد من النضال يهنيء الرفاق في الشعبية بذكرى الانطلاقة
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 12 ديسمبر 2015, 3:40 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي تدين اقتحام الاحتلال لمكاتب فصائل المنظمة بجنين
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 12 ديسمبر 2015, 3:35 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي تشارك الشعبية بذكرى انطلاقتها بمخيم جرمانا
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 12 ديسمبر 2015, 3:25 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي تهنئة الشعبية بمناسبة انطلاقتها في البارد
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالجمعة 11 ديسمبر 2015, 7:16 pm من طرف montaser

» د.مجدلاني يستقبل القنصل الايطالي لويجي ماتيرلو
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالجمعة 11 ديسمبر 2015, 2:38 pm من طرف montaser

» د.مجدلاني يلتقي السفير الصيني لدى فلسطين
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالثلاثاء 08 ديسمبر 2015, 7:31 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي في سورية تستقبل وفد اللجنة التحضيرية للمهندسين الفلسطينيين
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالثلاثاء 08 ديسمبر 2015, 7:26 pm من طرف montaser

» النضال الشعبي تدين الحكم الصادر بحق النائب جرار
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالثلاثاء 08 ديسمبر 2015, 7:23 pm من طرف montaser

» لنضال الشعبي تعقد اجتماعا لفرع المخيمات ولنضال الطلبة وتشارك بندوة حول “الهبة الجماهيرية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 05 ديسمبر 2015, 2:37 pm من طرف montaser

» د. مجدلاني يلتقي رئيس ديوان وزير الخارجية البلجيكية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالسبت 05 ديسمبر 2015, 7:46 am من طرف montaser

» د. مجدلاني يلتقي وفد قيادات شابه من الشرق الاوسط بحضور نواب في البرلمان الاوروبي في بروكسل
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالجمعة 04 ديسمبر 2015, 8:11 am من طرف montaser

» جبهة النضال الشعبي تنعي القائد الوطني الكبير عضو مكتبها السياسي اللواء خالد شعبان
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالجمعة 11 أبريل 2014, 6:24 pm من طرف montaser

» العطاونة يؤكد أهمية الالتزام بمبادئ الإجماع الوطني
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأربعاء 28 أغسطس 2013, 5:27 pm من طرف محمد العرجا

» شباب النضال برفح ينظم دورة تدريبية بعنوان ( إعداد قيادة شابة )
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 08 أبريل 2013, 12:18 am من طرف محمد العرجا

» خلال اجتماعه الدوري : شباب النضال برفح يبحث استعداداته لإحياء ذكرى يوم الأسير الفلسطيني
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالجمعة 05 أبريل 2013, 11:54 pm من طرف محمد العرجا

» شباب النضال في قطاع غزة ينعى شهيد الحركة الأسيرة اللواء\ ميسرة أبو حمدية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأربعاء 03 أبريل 2013, 12:35 am من طرف محمد العرجا

»  شباب النضال بقطاع غزة يهنئ المرأة الفلسطينية بيوم المرأة العالمي
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأحد 10 مارس 2013, 11:35 pm من طرف محمد العرجا

»  النضال الشعبي مخيم نور شمس :سياسة تقليص الخدمات للاجئين الفلسطينيين تنذر بمخاطر
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأحد 10 مارس 2013, 11:34 pm من طرف محمد العرجا

» د. مجدلاني يلتقي ممثل اليابان ويؤكد دولة فلسطين تسعى لسلام حقيقي وشامل في المنطقة
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأحد 10 مارس 2013, 11:32 pm من طرف محمد العرجا

» وفد من النضال الشعبي يقدم العزاء بوفاة النقابي خالد عبد الغني
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأحد 10 مارس 2013, 11:31 pm من طرف محمد العرجا

» شباب النضال بقطاع غزة يعقد اجتماعه الدوري لمناقشة القضايا الشبابية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالأحد 10 مارس 2013, 12:11 am من طرف محمد العرجا

» شباب النضال بقطاع غزة يدعو الشباب الفلسطيني لتحديث بياناتهم بالسجل الانتخابي
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 11 فبراير 2013, 12:07 am من طرف محمد العرجا

»  شباب النضال بقطاع غزة يدعو المجتمع الدولي إلى حماية أسرانا في سجون الاحتلال
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 04 فبراير 2013, 11:41 pm من طرف محمد العرجا

» شباب النضال بقطاع غزة يهنئ موقع دنيا الوطن لحصوله على المركز الأول في فلسطين
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 04 فبراير 2013, 11:39 pm من طرف محمد العرجا

»  النضال الشعبي برفح تعقد اجتماع موسع لقيادة الفرع و للهيئات التنظيمية والنقابية
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 04 فبراير 2013, 10:50 pm من طرف محمد العرجا

»  النضال الشعبي تنعى المناضل التقدمي الرفيق نمر مرقس
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 04 فبراير 2013, 10:49 pm من طرف محمد العرجا

»  النضال الشعبي تنعى المناضل التقدمي الرفيق نمر مرقس
قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالإثنين 04 فبراير 2013, 10:47 pm من طرف محمد العرجا

انت الزائر

.: عدد زوار المنتدى :.


 

 قصص من اعمال الياس المدنى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:48 am

صخور كنعانية جبل الكرمل من ناحية بلد الشيخ: تصوير مقبولة نصار الياس المدني تهاوت قدماه ولم يشعر بنفسه إلا مرمياً على حافة الرصيف. كانت عصا الشرطي قد أصابته بين كتفيه فهوى العلم من يده وأخذ الالم يتراكض في عموده الفقري. لم يعد هناك مفر وفي عينيه ترائ له وجه ابيه بشاربيه الكثين الرماديين. نعم لقد عصى امره وخرج الى الشارع فدب الذعر في اطرافه خوفا من غضب والده. *** نظر كنعان الى السور الحجري العالي وقرأ شعاراً خطته يد أحد السجناء المضرجة بدمائه"يسقط التحالف مع بريطانيا, تسقط اسرائيل, عاشت فلسطين حرة عربية". كان السجن جزيرة وسط بحر من الرمال الصفراء بعيداً في قلب الصحراء, تفصله مئات الكيلومترات عن الخليل حيث ولد كنعان وقضى طفولته القصيرة وألقي القبض عليه اثناء مسيرة صاخبة ضد حلف بغداد. في "الجفر" كانت ظروف الحياة قاتلة: عشرات السجناء حشروا في زنزانة صغيرة دون ماء او صابون, دون كتب أو جرائد دون حتى مذياع صغير. لقد عزلوا تماماً وفقدوا الاتصال بالعالم الخارجي. أما في عالمهم ذاك فكان الشرطي إلها هدفه واحد لا غير: تحطيم المساجين جسدياً ونفسياً. لقد كان الجفر اسوء سجن عرفته الأردن في تاريخها الحافل الطويل. كان الجفر سباقاً لا ينتهي للقضاء على آلاف الأفاعي ويحث الموت يطل من كل شق في جدران الزنزانة المليئة بالعقارب والحشرات الصحراوية السامة. لم يكن هذا الشيء الوحيد الذي سبب الذعر, كانت هناك الزنزانات المنفردة. متر مكعب لانسان منع من حقه في الحياة. الساعة فيها وازت سنوات. *** كان كل شيء يشي بان الحرب قادمة. خطابات القادة العرب, تعبئة الجيش, استدعاء الاحتياط في البلاد المجاورة تحالفات جديدة بين الاخوة - اعداء الامس. كان كنعان لا يبرح مكانه قرب المذياع يستمع إلى الاخبار ويتابع كل الاحاديث. أصوات الانفجارات تقترب من الخليل. دوي القذائف يهز الجدران الحجرية. آلاف من المهجرين راحلون نحو الشرق ووحدات الجيش تنسحب نحو النهر والعلم ذو النجمة السداسية يقترب على ظهر دبابة. اسرائيل تحتل سيناء وتصعد هضبة الجولان بعد أن غادرتها آخر فرق الجيش السوري. "ما العمل؟" تسائل كنعان وفي دخيلته مرارة لا توصف. نظر إلى بارودة الصيد بين يديه "هل تستطيع هذه البارودة الصدئة أن توقف تقدم دبابات العدو؟". أثناء القتال سقط اثنان من اصدقائه. مجموعة المتطوعين تفرقت تحت ضغط نار العدو وقذائف هاوناته. كانت المتاريس لا زالت تقاو حين قطعت إذاعة عمان بثت المارشات العسكرية لتعلن للأمة "بحزن وأسى" سقوط الخليل. "لعنة الله عليكم! أولاد قحبة!" شتمهم كنعان بصوت يشبه الصراخ. صوب بندقيته نحو السماء كأنما وجد هدفاً. أغمض عينه اليسرى وأطلق رصاصته الأخيرة. في الطريق إلى الأردن نظر كنعان إلى السلسلة البشرية الممتدة حتى الأفق. رأى وجوهاً متعبة, دموع صامته في العيون الحجرية الحزينة. شاهد رؤوساً احناها الشعور بالحزن وبالعار. سمع اصواتاً تهمس بصلوات ودعاءات إلى الرب واخرى انفجرت بلعنات وشتائم وصولاً الى السماء. دفعت زوجته ابنهما ذي السنوات الست أمامها وهو يحمل على رأسه صرة ملابس ينوء تحت ثقلها. ورضيعتها يبكي على يديها. فكر كنعان طويلاً بأبيه. بسرعة استعاد تاريخه الطويل وعناده الذي لم يتراجع عنه. وتسائل في نفسه أيجده في إحدى هذه المجموعات المهاجرة أم أنه بقي مع بارودته الانجليزية على متراسه في الخليل ليلاقي هناك وجه ربه؟ *** عاد الى خيمته في المخيم الواقع بين احراش جرش والطريق المؤدية الى المدينة. كاد القهر أن بقتله. اطفاله جائعون وملابسهم لا تقيهم شر هذا البرد اللعين. لم يجد أي عمل كي يحصل على لقمة عيش لهم, حتى حمالاً في سوق المدينة. نظر بحزن الى زوجته وهي تغلي الماء وتضيف إليه بقايا السكر لتسكت جوع البطون الصغيرة. فكر طويلاً, جال بعينيه في انحاء الخيمة المبللة إلى أن ثبتهما على حذائه القذر بسبب الطين واوحال المدينة. فجأة لمعت بباله الفكرة. نعم سيمسح احذية الناس في المدينة. السيول الهابطة من المرتفعات المجاورة جرفت في طريقها العديد من الخيم القماشية. وتلك التي تجاوزتها السيول خطفتها العواصف الشديدة. كانت نساء المخيم تذهب كل يوم عدة كيلومترات إلى العين لتعود كالجمال محملة بجرار الماء على رؤوسهن وفي كلتا اليدين. بينما يلهو الأطفال وسط الوحول المتعفنة ويقضون وقتهم بلعبة الحرب. *** لم يستطع كنعان أن يغف في تلك الليلة. تقلب من جنب إلى جنب طويلاً. كانت زوجته قد أطفأت الفانوس منذ زمن. نام الاطفال وتوقفت الحركة في ازقة المخيم. بين الحلم واليقظة سمع كنعان أصوات غريبة وأحاديث غير واضحة. نظر من ثقب فرأى عدداً من الرجال لم يستطع أن يميزهم في عتمة الليل. عندما ايقظته زوجته في الصباح كانت تحمل بيدها ورقة وجدتها أمام الخيمة. كانت بياناً سياسياً بمناسبة الذكرى الثالثة لانطلاقة الثورة. *** تابع كنعان بشغف كبير اخبار العمليات الفدائية وفي داخلة يكبر الفخر والاعتزاز, لكن السؤال الأبدي الذي لم يفارق ذهنه لا زال بلا جواب: "متى تحرر الحكومات العربية فلسطين؟ متى سيعود إلى الخليل؟". في المخيم اختف العديد من الخيم وبنى اللاجئون بيوتاً من الطين والتبن وبدؤوا بتنظيم حياتهم الداخلية. أما الأهم بالنسبة لهم فقد كانت تلك الغرفة قرب ساحة المخيم حيث علقت صور الشهداء وابطال الثورة. كانت هذه الغرفة تسمى "مكتب العاصفة". أخبار المعارك وصلت بسرعة إلى المخيم من قرية الكرامة الحدودية. فتجمع ابناء المخيم حول الراديو الوحيد أمام مكتب العاصفة ليتابعوا أخبار الانتصارات الجبارة. كان كنعان كباقي المجتمعين يردد الأخبار على مسامع المتحلقين حوله وكأنهم لم يسمعوا ما جاء من المذياع. ومن مكبرات الصوت كانت تتعالى اناشيد وطنية واغان لم يسمعها سكان المخيم من قبل. كان الفخر والاعتزاز واضحاً على وجوه الجميع وعاد الكبرياء الذي اختفى منذ سنوات ليتوج جباههم. *** لم يكن تشييع يونس الذي سقط على ارض الكرامة يومياً عادياً في حياة المخيم. مئات الفدائيين ببذاتهم الخضراء والكاكية يحملون البنادق. عشرات السيارات العسكرية المزينة باعلام فلسطين والفرقة الموسيقية تعزف الالحان العسكرية. كانت ايادي رفاق الشهيد تتسابق لحمل نعشه بينما أخذ آخرون باطلاق الرصاص في الهواء والجميع يشعر بالفخر والاعتزاز من التضحية البطولية لابن المخيم. وما أن بدا وجه أم يونس حتى اخذ الحناجر تغني لها: "يا أم الشهيد وزغردي كل الشباب أولادك" فانطلق حنجرتها بزغرودة طويلة. كانت نساء المخيم ترمي الرز والملح على رؤوس الشباب وهن يدعين الرب بان يحميهم وينصرهم. سار كنعان وسط الجمع خلف النعش إلى المقبرة. هناك رآه للمرة الأولى. كان قد رأى صورته في الصحف ولكنه الآن امامه وجه لوجه. نظر كنعان إليه: قصير ضعيف ذو شفتين كبيرتين غير متناسبتين مع تقاسيم وجهه. وعلى رأسه كوفية معقودة بشكل غريب, لحية سوداء قصيرة وعلى جنبه تدلى مسدس. نظر كنعان اليه باستغراب كبير, شعر باعجاب شديد به وبما يقول. شعر برغبة بان يضمه الى صدره. استمع اليه وهو يحدثهم كيف تحدى الثوار باجسادهم دبابات العدو وطائراته. كيف سقط يونس وهو يفجر بجسده دبابة اسرائيلية. قال لهم يومها:"لا تنتظروا احداً اذا كنتم تريدون تحرير فلسطين. عليكم أن تبادروا بانفسكم وليس ان تعتمدوا على الآخرين". عاد الى البيت ومشاعر عنيفة تأخذ بفؤاده, جلس وزوجته قرب المدفئة الحديدية القديمة. في الطرف المقابل كان احمد وعفاف يلاعبان اختيهما الصغيرة.
يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:50 am

روى كنعان لزوجته عن مشاعره الهياجة بعد ان سمع كلام ذاك الرجل الملتحي. لقد اتخذ قراره. بدأت الدموع تسيل من عيني تلك المرأة الهزيلة. ضمها الى صدره وقبل جبينها بحنان وحب عميق. عندما جلسوا لتناول طعام العشاء نظر احمد الى ابيه ورجاه ان يشتري له بندقية لانه يريد ان يحارب مع الفدائيين. ابتسم كنعان لكلام ابنه وقال له انه يجب عليه الان ان يفكر كيف سيرعى الاسرة لانه منذ الغد سيصبح رجل العائلة الوحيد. لم يفهم احمد ماذا اراد ابوه ان يخبره لكنه عندما فتح عينيه في الصباح كان والده قد غادر المنزل. *** لم تكن فرحة احمد توصف عندما كان يصحو احياناً ويرى بدلة ابيه المبرقعة معلقة على مسمار في الحائط. ومن تحتها تبدو فوهة البندقية. كان كنعان يزور اسرته كلما اتيحت له الفرصة, حليق الذقن وبمزاج صاف لطيف. في المساء كان الجيران يتحلقون حوله يتناولون الشاي ويستمعون اليه بشغف وهو يحدثهم عن البطولات العديدة للفدائيين. لكن اولئك الزوار كان يزعجون احمد كثيراً لانه كان يريد من ابيه ان يحدثه وحده عن تلك القصص الرائعة. *** في احدى الليالي صحو احمد همساً وضجيجاً خافتاً. نظر من شباك غرفته الطينية فرأى عدة اشباح ميز منها في ضوء الفانوس النفطي والديه. حفروا الارض ودفنوا فيها ثلاث صناديق خشبية, لم يعرف احمد ماذا بها. عندما سأل امه في اليوم التالي قالت له انه ربما كان يحلم وانه يجب عليه الا يخبر احداً بهذا الحلم. عاد كنعان الى البيت لم تحلق لحيته منذ عدة ايام. كانت ملابسه متسخة جداً وممزقة ويده لفت بضماد ابيض. كان التعب قد اخذ منه كل جهد والحزن والغضب باديان في عينيه. علق بندقيته على كتفه الايمن ومن خصره تدلت عدة قنابل. تفجرت الحرب بين الثورة الفتية والحكومة الاردنية. فصائل المقاومة انسحبت من عمان ومن منطقة وادي الاردن وتركزت المعارك في محيط اربد وجرش. غاب كنعان طويلاً عن البيت. لم يفهم احمد لماذا جاء رجال الامن وفتشوا بيتهم. لم يعرف لماذا صفع احدهم امه وشتمها باقذر الكلمات. ولماذا جمعوا الشباب واخذوهم الى التحقيق ثم دبوا بهم في السجن. كل ما كان يعرفه آنذاك هو ما قاله له احد ابناء الجيران بأن الملك باع فلسطين. بعد غياب ثلاث سنوات رجع كنعان الى البيت. عاد كأخر من اعتقلوا من ابناء المخيم وأخذ يعمل في مهنته الاولى كدهان بيوت عند اصحاب البيوت الميسورة. اعاد اعمار بيته الذي دمرت جزء منه قذيفة اثناء المعارك. لكن كنعان عاد كانسان اخر. قليل الكلام نادراً ما يبتسم يستمع الى الاخبار بصمت وبدون أي تعليق او ردة فعل ظاهرة. كان يقضي امسياته في المقهى بلعب الورق وطاولة الزهر. مرت سنوات عشر منذ عودته, اهمل خلالها البيت والاسرة مغلق في نفسه. لم يصحوا لنفسه الا عندما حضر رجال المخابرات العامة الى بيته لاعتقال ابنه احمد! كان امر الاعتقال مفاجئة شديدة وصدمة عنيفة لكنعان. *** لم يعرف كنعان مسبقاً ان ابنه احمد كان منذ سنوات ناشط في احدى المنظمات الشبابية الفلسطينية المحظورة في الاردن. كان يعتقد ان زيارات احمد العديدة الى عمان هي بهدف زيارة بيت خاله هناك لا غير. انتظر رجال المخابرات طويلا عودة احمد. اثناء تفتيش البيت وجدوا عدداً من الكتيبات المحظورة وبعض المنشورات الثورية. غير ان احمد لم يعد الى البيت. القدر شاء ان احد رفاقه لاحظ ما يجري في بيتهم فحذره قبل وصوله الى المنزل. في اليوم الثامن لاختفاء احمد وبعد التحقيقات الطويلة التي اجراها رجال المخابرات مع اهله واصدقائه استطاع والده خلسة ان يصل الى البيت الذي كان احمد يختفي به قرب جرش. كان لديه خيارين: اما ان يسلم نفسه او ان يغادر الاردن مهرباً عبر الحدود كما طلبت منه منظمته. لم يفكر كنعان مطلقاً بل امر ابنه بمغادرة الاردن. فكنعان يعرف تماماً ماذا يعني "الجفر". *** عندما انهى احمد دورة عسكرية تم ارساله الى مدرسة التأهيل العسكرية قرب بيروت ليدرس هناك التاريخ. كانت لديه موهبة رائعة في ايصال افكاره الى الآخرين والدفاع عنها. كان في منتصف المحاضرة عندما قطع قائدة الدرس فجأة وطلب من الجميع التوجه الى قواعدهم. في الرابع من حزيران 1982 بدأ عدوان اسرائيلي جديد على لبنان. كان قوات الجيش الاسرائيلي تحاول احتلال مرتفعات عين عطا في القطاع الشرقي من جنوب لبنان, بينما ابطال القوات المشتركة تدافع عنها استماتة. استمرت المعركة لساعات طويلة. استشهد عيسى وهو يحاول ان يغطي على احد رفاقه. قضى خالد وعبود ووليد من مجموعة احمد. مضى نضال وثائر من قوات الكاتيوشا. سقط معد وهو يحاول بقاذفة الار بي جي تدمير دبابة معادية. في الساعة العاشرة تلقوا امراً بمغادرة الموقع لاستحالة الدفاع عنه. جمع احمد من بقى حياً من رفاقه. بحثوا عن احياء آخرين بعد استشهاد الملازم ابو العبد. بقي تسعة اشخاص احياء من خمسين فدائياً كانوا يشكلون احدى فصائل كتيبة الكرمل! انتهت الحرب. رغم البطولات الجبارة للقوات المشتركة غادر اخر المدافعين عن بيروت الميناء على ظهر سفينة وسط زغاريد النصر ووعود الوفاء. بعد خروج احمد من المستشفى بعد علاجه من جراء شظية اصيب بها عمل في احد المكاتب الاعلامية الفلسطينية في دمشق. هناك لم يتق للسلطات الخط السياسي الذي اتبعته منظمة احمد فتم اعتقاله ونفيه مثل معظم اعضاء ذاك التنظيم. *** منفياً في اوروبا تابع احمد بشغف وتلهف كبيرين اخبار دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر. كان يدير مؤشر الراديو بانفعال من محطة الى اخرى. كان يستمع الى نشرات الاخبار حتى باللغات التي لا يفهمها عله يربط بين الكلمات ليستخلص منها شيئاً. خطر له كنعان العجوز ومعركته المستمرة منذ سنوات طويلة. تسائل في نفسه ان كان ابوه لا يزال كعادته القديمة يتابع كل نشرات الاخبار! هل توقظ اخبار الجزائر الامل في نفسه لزيارة ضريح ابيه الذي سقط على احد متاريس الخليل عام 1967 وهو شاهراً خنجراً امام دبابة اسرائيلية بعد ان نفذت ذخيرته؟ قطع المذيع سيل افكاره. نظر الى شاشة التلفزيون امامه. سمع الخبر من الجزائر. كانت كلمات ذاك الرجل الملتحي تحز عقله: "ان المجلس الوطني الفلسطيني, باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني يعلن قيام دولة فلسطين على ارضنا الفلسطينية بعاصمتها القدس الشريف". شعر بقشعريرة شديدة تسري بجسده. توقف شعر رأسه ودموع حارة سالت على خديه. تحجرت كل الكلمات بحلقه. كانت فكرة وحيدة تدور بذهنه: "كم من الدم والوقت والجهد, كم من الارادة نحتاج بعد كي تصبح دولتنا حقيقة؟" ملاحظة: توفي كنعان العجوز في كانون الاول 1988 بعد اسابيع من اعلان قيام الدولة الفلسطينية ودفن قرب جرش دون ان يسمح له بزيارة قبر ابيه في الخليل. ابتلع المنفى كل ابناءه واصبحوا موزعين في خمسة بلاد في اربع قارات. اجتمعت العائلة كلها لاخر مرة في عيد الميلاد عام 1981.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:52 am

قصة بعنوان العدل


والعدل في الارض يبكي الجن لو سمعوا به

--------------------------------------------------------------------------------

من مجموعة: الاشجار تموت واقفة
كانوا يحملون جسدي في سيارة الموتى الاحياء وراء قضبان من حديد. لم يعرف احد بقصة موتي .. لم يصدق احد انني في مرحلة النزاع الاخير ..
كانوا يسيرون بي الى مقبرة الاحياء وروحي الهائمة قلقة تلاحق السيارة، تسير في ظلمة حالكة.كان المشيعون كثر والاجداث كثيرة والشمس؟ الشمس كأنما ربطت بنا بعلاقة الجدل الابدي، اذا كانت تبتعد عن سماء المدينة كلما ابتعدنا. وظلال الابنية الشاهقة توحي بوحشة لا تنته والسكون الرهيب يغزو شوارع المدينة.
كانوا يشيعوننا الى مقبرة الاحياء .. بعضهم باك وبعضهم متباك. ونوافذ مدينتنا الحزينة تهرب جزعة حتى غابت اخر اشباح الابنية خلف الظلام وارسلت الشمس اخر اشعتها الرمادية الى الجبال وغرقت المدينة في ظلام دامس واختفى الربيع الفتي خلف الاسوار.
***
عندما يغيب العدل عن مدينتنا نصبح جميعا موتى، لم ينته عمري، لم يحن بعد اجلي، لكنهم ارسلوني الى المدينة الضائعة خلف التلال، ارسلوني الى مقبرة الاحياء ووضعوني في جب كبير
واهالوا علي اكوام الظلام ثم قرؤوا آيات مبهمة من قانون غائب. ولكن عجبا!! لا ملكان، لا جنة ولا نعيم فقط نار فقط جحيم، فقط جثث حية واكوام هائلة من الظلام.
عندما يغيب العدل عن مدينتنا نصبح جميعا ضحايا بلا ذنوب ونرسل الى مقبرة الاحياء، نفقد نور الشمس نتخبط في ظلام دامس ولا يبق من الحضارة سوى اشباح تحمي قصورا ترمي بظلالها وظلامها على من لا سند له ..يصبح وهج الشمس نارا تحرق زهور العاشقين، تصبح النجوم سلاسل تكبل النجوى.. وتصبح الفراشات طعنات قاتلة ووشوشة العصافير اشكالا خانقة من الاسى.
عندما يغيب العدل عن مدينتنا نصبح جميعا سبايا، سكارى ضائعين في ازقة المدينة ومتاهات الظلام. نفقد ما يسمى بالانسانية وتغرق المدينة في ظلمة حيث لا يبق في شوارعها غير اشباح مخيفة ولا يُسمع فيها غير صراخ الصمت الرهيب ولا يُر فيها غير ضوء الظلام. آنئذ نفقد الجميع، الاهل، الاصدقاء وربما كل الاحبة.

عندما يتخلى عنك اخر الاصحاب، تطفئ اخر سيجارة وترتشف اخر قطرة من الخمر، عندما ينتهي كلام النفاق وتهجرك اخر حبيبة حينها تشعر انك وصلت الى حد الثمالة وان الخمر قد ايقظتك من رقادك العميق عندها تصنف البشر: اعداء بل اصدقاء، بل اعداء بل اعداء..
***
عندما يغيب العدل عن مدينتنا نصبح ضحايا ونرسل الى مقبرة الاحياء .. لكنهم نسوا ان القلب العاشق يمكن ان يملأه الحقد، وان زبد الماء قد يتحول الى دماء قانية وان الخرير العذب سيصبح هتافا وصراخا، وان النسيم اللطيف سيصبح رياحا عاتية ..
ونسوا، نسوا عندما داسو زهور الياسمين المقدسة انه سينبت مكانها آلاف الاشواك الحادة، ونسوا ان بعد الموت هناك بعث ونشور ثم حساب.. ثم عذاب.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:54 am

نجوى القمر


من مجموعة: الاشجار تموت واقفة
الى نجوى في ذكراها السابعة
تخرج من الغرفة وتفتح نافذة غريبة. يغمرك القمر بضؤه الوضاح فيغسل قلبك لؤلؤه الفضي. لما يهاجمك خذا الشوق الجامح؟ من الذي فتح خزينة الذكريات؟ لماذا ترى طيفها يراقص النسمات وهي قد مضت منذ سنين طويلة؟
هناك خلف السحاب نجمة تناجيها. هل كانت تحب النجوم؟ ماذا بقي من ذياك القمر غير نصف لن يستطع الحوت اللعين ان يسرقه؟
يغدو السحاب وترحل معه ديمة المطر. بالامس غابت كل النجوم وابتعد عن غربتك القمر وهو اليوم يرسل اشعته الى قلبك فيوقظ ذكريات ما غفت ابدا.
وهي هناك. تراقص عطر الندى وترسم لك في الهواء قوس قزح. نادت النسيم فاتى عابقا بشذا الياسمين الدمشقي وعنبر الكرمل. قطفت لها غيمة ليلكية وحملت الذكرى وفي الجوار كان هناك صبار فج رقد خلف ازهاره العسكر.
كانت تتهادى على امواج الخليج والافق الاحمر يسرق الصواري. لا احد يعرف كيف مضت، حينما انتفض شلال شعرها العاشق وسقط مع ضجيج الموج. لم ير احد هل اختلط بياض ثوبها الحريري بدمها ام بلون البحر ولم يعرف احد هل تركت عينيها مفتوحتين لتحاكي السماء ام من شدة الالم. ترى هل رأت عينا القاتل بسمتها بعدما رف اصبعه عن الزناد؟
زين القمر نفسه في تلك الليلة كي يهديها اليها. وامك كانت تعد كعك العيد، وامها؟ هل اضاءت الشموع؟ هل تذكر الراهب قرع النواقيس؟
قطفت لها يوما قرنفلة حمراء من حديقة الدار وقد اطلقت شعرها حرا للنسيم، نظرتما نحو ذياك الغروب الدموي، قالت انها لا تحب لون الدم لكنها تتوق الى هذا الغروب في احضانك. سألتها يومها كثيرا ولم تسألها بعد كيف الحال، وها انت ذا تجلس اليوم خلف طاولة جرداء تخط رسالة لها وقبرها بعيد عنك الاف الاميال. ماذا ستكتب لها وهم لم يسمحوا لك بالاقتراب من لحدها؟ لم تضع عليه بعد وردة جورية كالتي اهديتها اياها ولم تشعل لها الشموع. تلك القرنفلة الحمراء التي اهدتها لك يوما لا زالت ترافق غربتك ولا تغيب عن ارتحالك. جمعتكما كل ارصفة الموانئ قربتكما كل شوارع الاشتياق ولم يدري الجندي القاتل بسر تلك القرنفلة.
اليها تكتب اغنية الى التي رحلت بصمت دونما كلمة وداع. لن تقرأ بعد اليوم ما كتبت، لن تنقد بعد اليوم اشعارك ولن تغنيها لك. لن ترسل لك النجوى موالا عند كل مساء ولن تعزف ابتسامتها فرحة اللقاء. فان عدت يوما فاهمس لصليب قبرها ما كانت تغني في لحظات السعادة والنسيان، واكتب عليه (دعوا الاطفال يأتوا الي، دعوا العصافير تغني فوق قبري). لا تلم ساعي البريد، فنجوى بعد اليوم لن تجيب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:56 am

الشهيدة نجوى شرف الدين
ولدت 31 تموز يوليو 1962 استشهدت 21 آذار مارس 1983
عهد الوفاء الدائم ... الياس
ملاحظات قبل البداية
لم يكن من السهل على فتح جروح اردت عامدا او غير عامد عدم العودة اليها. عندما جلست افكر ماذا اكتب عن نجوى وكيف اكتب كان طيفها يرقص امامي عادت فجأة كل الذكريات التي عشتها معها. تذكرت تفاصيل كنت احسب انها غرقت في غياهب النسيان. كيف اكتب عن حبيبة ومناضلة؟ كيف اكتب عن انسانة صنعت في الماضي اجمل ايامي واحلى الذكريات؟ كيف اكتب عن بطلة سقت دمائها تراب الجنوب؟ كانت نجوى قبل كل شيء انسان. فاردت ان اكتب عن الانسان فيها. عن الفرس الثائرة عن الحبيبة الرومانسة عن الفراشة التي لازالت تحلق في سماء الجنوب. فهل نجحت؟ لا اعرف. انشر ما كتبته دون تدقيق نحوي ودون اعادة صياغة. لو انها كانت بيننا وقرأت ما انشره هنا لكانت اسمتني بالكسلان لانني لم اعد صياغة ما كتبت. ولكن لا اريد اعادة صياغته لاسباب عديدة اهمها انني لا استطيع ان اقرأ ما كتبته عنها. فعذرا على كل الاخطاء النحوية والاملائية والفكرية ان وجدت. فانا كتبت عن قصتي مع نجوى وهو اصعب ما يمكن لي ان اكتبه
1979 - 1980
الموعد الاول
كانت دعوة عادية على فنجان قهوة من صديقي رامي الشركسي الاصل. عندما فتحت لي الباب فقدت كل الكلمات معانيها ونسي لساني كل الحروف. لم ار في حياتي فتاة اجمل منها. كانت سنواتي التسع عشر مليئة بالاحلام الوطنية وهموم اعالة اسرتي. ولم يكن في حنايا قلبي الموزع بين الوطن والاسرة مكان لتعشعش فيه الاحلام العاطفية.
لم اكتب حتى تلك اللحظة رسالة غرام واحدة، لم اخط ابدا جمل الرومانسية ولوعة الشوق الى غير الوطن السليب. نظرت اليها وأردت أن أقول شيئا ما، لكنها لم تتح لي فرصة للكلام بل دعتني للدخول.
لم تكن الحياة في بيتهم تقليدية كما في البيوت العربية. لم يكن هناك فصل بين الضيف ونساء البيت. لم تمر ثوان حتى شعرت انني في بيتي وبين اهلي وعائلتي التي لم ارها منذ سنة تقريبا.
كانت نجوى كالفراشة تطير من مقعد الى مقعد تنثر الضحكات والمرح. كانت مثل النحلة ترمي التعليقات الصائبة على نقاشنا السياسي. حتى تلك اللحظة لم اكن على علم بان القدر سيرني باتجاه هذا البيت لسبب محدد. عندما خرجت بعد عدة ساعات بصحبة رامي كنت واثقا انني تركت في بيتهم جزءا مني ولكن لم اكن اعلم ماذا.
لا اعرف كيف مرت تلك الامسية، لم اجد كلمة تعبر عما في خلجاتي من احاسيس باتجاه هذه الأسرة التي فقدت اباها القائد النقابي في صيدا بعد أيام من تفجر الحرب الأهلية في حادث اغتيال بشع. لكنني لم أفقد صوابي ولم افكر بنجوى قط كبطلة لقصة حبي التي كان القدر يحيكها دون علمي وانها ستصبح بالنسبة كل شيء وستقلب هدوء أيام إلى زلزال، وان معها ستبدأ صفحة جديدة في حياتي حينما سيبتسم الحظ لي قريبا.
ولكن هل فكرت نجوى بي بشكل آخر؟ هل كانت تفكر بي بذات الطريقة التي فكرت انا بها؟ هل حاولت تذكر صورتي كما كنت احاول ان اعيد حركاتها الى ذاكرتي؟ لم تبح لي بسرها هذا واخذته معها.
تركت شعرها الطويل الاشقر القاتم بلون الذهب العتيق يطير حراً على ظهرها وكتفيها وهي تنتقل من مقعد الى اخر. كانت عيناها الخضراوان مثل ربيع البراري ضاحكتان تنمان عن ذكاء فطري وخفة دم طبيعية. اما انفها المستقيم الصغير فقد اعتلى شفتين رقيقتين اخفيتا صفين من الاسنان البيضاء اللامعة، توسطتا وجهها ذي التقاطيع المتوازية، والذي حمله عنق ابيض طويل. نجوى كانت "اية خلقها الله ليبتلي بها المؤمنين" – كما اعترفت لها بعد اشهر من معرفتها.
نجوى كانت رقيقة في كل شيء، رشيقة الحركة، تفرغ الانسان من كل غضب لبراءة بسمتها ولهجة الدلال التي ميزها عن الجميع.
هل كان ذلك حب من اول نظرة؟ لا اعتقد. نعم احببتها ولكن احببتها كصديقة وليس كعشيقة.
انقضى اسبوع قبل ان نلتقي من جديد. هذه المرة كنا بصحبة اصدقائنا الاعزاء سميرة موعد وسعيد عمورة طالبي الحقوق بجامعة دمشق ورامي وخطيبته هالة طالبة كلية الهندسة حيث كنا مدعوين لحضور امسية شعرية على مدرج هذه الكلية. بالمناسبة عرفت رامي عن طريق سعيد.
بعد الامسية في رحاب مقهى الجندول وسط دمشق عرفت نجوى السياسية. لم تعد تلك الفتاة الشفافة الرقيقة. بل كانت ابنة الجنوب المناضل. ابن الشهيد الوفية لمبادئه، الواعية لما يجري حولها من أحداث. كانت المرة الثانية التي التقي فيها نجوى ولكنها المرة الاولى وقبل الاخيرة التي احتد النقاش بيننا فيها الى هذه الدرجة.
لم اعد ارى فيها تلك الفتاة الوديعة التي كانت توزع البسمات والمرح. بل اصبحت لبوة ثائرة غاضبة ترمي الاتهامات واللوم، تصف الناس بالتقصير وعدم الاهتمام بما يجري. كانت انسان اخر غير الذي رأيته قبل اسبوع.
لا استطيع ان اقول انني كنت سعيد بقضاء تلك الامسية. كنت ادعو ربي ان تنقضي بسرعة لانني لم اعد اتحمل تلك الهجمات الغير مبررة. غير ان سميرة قطعت الحديث على عادتها اللبقة بمرح وضحك واستطاعت بحنكة المحامي ان تسير الحديث نحو مجراً آخر.
في نهاية السهرة كانت المفاجئة الكبرى. كنا نسير من ساحة يوسف العظمة باتجاه جسر فيكتوريا كان رامي وهالة ماسكي اليدين يسيران امام الجميع وخلفهما سميرة وسعيد اللذين تزوجا فيما بعد واصبحا اعز صديقين لنا، وانا اسير الى جانب نجوى بانزعاج واضح على وجهي. قالت لي: اتعرف ماذا يقول المثل في حالة كهذه؟ يقول لا توخد صاحب الا بعد قتلة. ثم بابتسامة ملئها الدلال المعهود طلبت مني الا اخذ على خاطري، فهي وان كانت تناقش بحرارة وانفعال فانها تقدر اراء الاخرين وتحترمها وتتفهم وضعهم. ثم امسكت بيدي وقالت تعال ايضا ندعي باننا عشاق. وكعادتها لم تنتظر ردي بل شدتني من يدي حتى اصبحنا نسير امام رامي وهالة وهي تمسك بيدي وتدعي انها تضع رأسها على كتفي بينما اخذ الصحب بالضحك والتعليقات اللطيفة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 12:58 am

ولدت لتكون ملاكي وسيدة قلبي
مضى حوالي شهرين منذ لقائنا الاول. كنا نلتقي مرة في الاسبوع وغالبا اكثر. كانت الامسيات الادبية والفكرية التي كنا ننظمها في البيوت عبارة عن منتدى متنقل بين بيتي وبيت اصدقائنا الصحفيين غسان او محمد. كانت ايضا فرصة للقاء بنجوى التي دخلت قلبي دونما اذن كصديقة واعتقد ايضا كحبيبة. كنت اتصل بها بشكل شبه يومي او تتصل هي دونما سبب فقط كي نسمع اصواتنا ونسأل عن الحال. اعطيتها بعض ما كتبت لقراءته فاكتشفت انها ناقد رائع. لا تستعمل مفاهيم النقد في طرحها ولكنها تعبر بجرأة ودون تملق عما يدور بخاطرها وما تشعر به من الكتابات التي تقرأها.
بدأت اكتب شعر الغزل. حاولت ان اكتب عنها كما اكتب عن الوطن. اخذت بتوحيد صورة الحبيبة مع صورة الوطن واعطيتها لقراءته. لاحظت ذلك فورا وقالت لي انه هذا الشكل من الكتابة "اجمل من البكاء على الاطلال والشوق الى مرابع القبيلة" وشجعتني على الاستمرار وكانت بداخلها كما اعترفت لي لاحقا تعرف انني اكتب لها. كانت الوحيدة التي تعرف متى اتكلم عن الحبيبة ومتى اتكلم عن الوطن.
في تلك الفترة حينما بدأت اتيقن ان ما اشعر به نحوها ليس فقط اعجاب بصديقة وانما هو الحب اتى الامتحان الاول من حيث لم اكن اتوقع. حصلت على دورة صحفية مدتها ستة اشهر في براغ. فوقعت في حيرة غريبة ولاول مرة في حياتي لم استطع اتخاذ القرار والوقت كالسوط يجلد ايامي. من ناحية كنت اود الالتحاق بالدورة لما لها من تأثير على مستقبلي المهني، ومن ناحية ثانية لم اكن اود فراق نجوى التي حتى اللحظة لم ابح لها بحبي.
تحدثنا طويلاً عن السفر طلبت مشورتها ففاجئتني هذه المرة ايضا بقولها: "العمر قصير جدا ويجب استغلال الفرصة، ولا تقلق فان كانت تحبك فسوف تنتظر". كان تعرف انه ليس لي حبيبة ولا فتاة لذا تفاجئت بقولها هذا، فسألتها ان كانت هي ستنتظر فابتسمت بدلالها الرائع وسألتني ان كنت قد تناولت الغداء.
فور وصولي الى براغ جلست وكتبت لها اول رسائلي، عاهدت نفسي ان اكتب لها عن كل شيء كعادتنا في دمشق. وهي ايضا كانت تكتب لي باستمرار. كنا نكتب عن اشياء مهمة، عن اشياء قليلة الاهمية وعن اشياء اخرى. ارسلت لها قصة قصيرة عن طائر الفينيق، فردت عليها بجملة واحدة: "ابحث عن سلة المهملات واترك القصة فيها". كتبت لها يوما انني مشتاق لسماع صوتها فارسلت لي شريطاً سجلت عليه رسالتها واغنية وقصيدة بصوتها للشاعر نزار قباني. مرت ثلاثة اشهر وانا كالشمعة يحرقني الشوق اليها. لم يكن في حياتي قبلها شيء قلب روتينية اليوم الى حريق، لا فتاة ولا قضية ولا شيء. كنت اسمع شريطها المسجل كل يوم، حتى ان زميلي اليمني الذي كان يقاسمني الغرفة ولم يكن من عشاق نزار قباني اعترف لي بانه ايضا اصبح يحب نزار بسبب نجوى.
قررت ان ابوح لها بكل شيء ارسلت لها رسالة طويلة بدأتها بقصيدة "الطيف" ومطلعها:
ان زرتَ حبيبي في الشآمِ فسلّمِ
من قلبٍ لظاهُ الفراقُ متيمِ
ان كنتِ نسيتِ عهدَ الحرِ ودَيْنَهُ
فعلى قلبي السلامُ على الحياة ترحَّمِ
كتبت لها اطول رسالة في حياتي اسمتها فيما بعد منشور الاعتراف. بحت لها بكل شيء، بحبي ورغبتي وتوقي وسألتها ان كانت ترضى بالزواج مني. انتظرت الرد ثلاثة اسابيع طويلة. لم استطع الصبر اكثر فاتصلت بها تلفونيا ولكن لسوء حظي لم تكن بالبيت. كانت رسائلها الاسبوعية تصلني باستمرار وانا انتظر رسالتها التي تحمل الرد. بعد شهر من ارسال رسالتي كنا قد عدنا من رحلة الى مدينة على الحدود الالمانية التشيكية عندما سلمتني عاملة الاستعلامات الرسائل الكثيرة التي وصلتني. كان من بينها رسالة نجوى. قرأت ما فيها بسرعة علني اصل الى الجواب. حدثتني عن الاصدقاء، عن السياسة، عن الادب، عن قطتي التي تركتها لصديقي محمود الذي كنت استأجر البيت معه، كتبت خمس صفحات عن كل شيء ولا اثر لاي رد على ما كتبته لها. كنت قد شعرت بانحطاط وانا اقترب من نهاية الرسالة عندما انتبهت الى ملاحظة في نهاية الصفحة: "قلت لك قبل السفر ان كانت تحبك فسوف تنتظر، وانا انتظر فعد الي بالسلامة". عندما قرأت هذه الكلمات انفجرت بالضحك. كان ضحك خارجا عن ارادتي، حتى ان زميلي اليمني اخذ بالضحك ايضا دون ان يعرف السبب. تصورت نجوى وهي تكتب هذه الكلمات. تصورت كم كانت رقيقة وعذبة وفهمت ان طريقة اللامبالاة التي ردت فيها ليس الا مزاح لتثير اعصابي، تصورتها وهي تخطط لفعلها هذا حتى بدت لي ابتسامتها وهي تتخيلني اقرا الرسالة بقلق باحثا عن ردها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:00 am

وفعلا لم انتظر طويلا. في رسالتها التالية كتبت لي بجدية. كتبت وعن شوقها كتبت عن الرغبة عن الانتظار. كتبت بصراحة عما يدور في ذهنها من افكار. كتبت كما تكتب الحبيبة للحبيب.
اكتشاف الذات
كانت الرسائل بيننا جسرا وشلال افكار مليئة بخطط المستقبل. لم يزداد عدد الرسائل عن المعتاد لكنها اصبحت اكثر شفافية في تناول قضايا العاطفة والحب. كان حبنا ينضج ببطيء ومن خلال الكتابات والرسائل كنا نكتشف ذاتنا عن بعد. اشعلت بي شعورا غريبا بالقدرة على عمل أي شيء. اصبح للامل موطن اسمه نجوى.
لكن الحنين والشوق كانا اكبر من تحملهما. الشوق اليها والحنين لبلادنا جعلا من قلمي منبع لارق الكلمات التي ما عهدت كتابتها. كنت اجلس خلف طاولتي اثناء المحاضرات واخط لها الرسائل كان وجهها يمتزج بكبرياء الكرمل وخفتها بفراشات الجليل. كانت معي في كل مكان في كل لحظة.
اذكر اول مرة اطلقت عليها في رسالة اسم فراشة. فردت قائلة ان الفراشات تعيش لفترة قصيرة وهي تود ان تعمر وتشيخ الى جانبي. في تلك الرسالة اعترفت لي بشعورها الغريب بان عليها ان تفعل كل شيء بسرعة لانه لا وقت لديها ويجب ان تترك شيئا يذكر الناس بها.
لا اذكر ما كتبت لها حينها عن الفلسفة التي تتمتع بها ابن الثامنة عشرة وقدرتنا نحن الشباب على تخيل اشياء لا وجود لها ولم اعر تلك المسألة أي اهتمام بعد ذلك.
انتهت الدورة وحان وقت العودة. كان موعد الطائرة المباشرة الى دمشق بعد خمسة ايام لكنني وجدت رحلة اخرى عبر اثينا فغادرت براغ برفقة الزميلتين اليونانيتين الينا وفيتا الى اثينا ومنها الى دمشق حيث كانت بانتظاري بالمطار برفقة محمود ورامي. كنت في براغ اتصور منظر اللقاء واتخيل نجوى وهي تمد يدها مصافحة وعيناها تنمان عن رغبة عميقة بمعانقتي. كنت اتصور ابتسامتها الفرحة ويدها تلوح لي مرحبة. تصورت منظر اللقاء الاف المرات، وكنت في كل مرة اضع سيناريو اخر، اضيف شيئا او احذف شيئا اخر. غير ان اللقاء بدمشق فاق كل خيالي.
عندما خرجت من بوابة الجوازات ودخلت قاعة المستقبلين ركضت نجوى امام الجميع فاتحة يديها مرحبة وشعرها الاشقر الطويل مثل ذنب فرس اصيلة يطير خلفها. كانت تلك نجوى فتاة احلامي التي سرقت قلبي. كانت تلك الثواني الفاصلة بيننا اطول لحظات عمري. لم يعد هناك عالم اخر. نجوى تركض باتجاهي ضاحكة وهي ترتدي بنطال الجينز وقميص ازرق وحذاء رياضي ابيض وقد رمت على كتفيها معطفا ابيضا طويلا. كانت تعرف انني احب ملابسها هذه لما تفضيه عليها من انوثة ورقة وجمال. كانت تركض باتجاهي فغاب المسافرون من امام عيني غاب كل الحاضرين المستقبلين والمودعين ولم ار سوى نجوى وتلك العينين الخضراوين وتلك الضحكة الرائعة رأيت فيهما سهول البقاع ومرج ابن عامر، رأيت جبال لبنان البيضاء والشمس الذهبية تعتليها فرحة. رأيت اجمل شفاه في الوجود. رميت حقائبي وفتحت يداي مرحبا ولم اشعر الا بحرارة قبلاتها على خدي وشعرها الحريري وهو يداعب وجهي. لا اعرف كم من الوقت مر عندما سمعت الكلمة الاولى. لم تقل لي كلمات الترحيب المعهودة بل قالت: وعد الحر دين عليه وقد وفيت بديني. لم اعد اذكر ماذا قلت بل لا اعرف اليوم حتى ان كنت قد قلت شيئاً. كانت نجوى باحضاني. كنت باحضان نجوى. كان هذا كل ما تمنيته من هذه الحياة ولم يعد للكلمات أي معنى على الاطلاق. لم اعد ابهاً بوجود الآخرين، بالنظرات الغريبة المستهجنة عناقنا الحار ولا قبلاتنا المتكررة.
في الطريق الى دمشق جلست على المقعد الخلفي للسيارة بيني وبين رامي وهي تمسك بيدي وتضغطها بين الحين والاخر بقوة. كنت اسعد انسانا بالوجود. كان يمكن لحياتي ان تنتهي في تلك اللحظة دون أي ندم. نجوى الى جانبي ورائحة عطرها الياسميني تبوح بكل الاسرار. كانت كل الكلمات والاسئلة عن براغ وعن الدراسة ليست ذات معنى والحديث عن امسيات الفلتافا مجرد كلام لقتل الصمت فكل ما احتل قلبي وكل ما فكرت به كانت نجوى ويدها الحارة تضغط من وقت لاخر على يدي.
عندما وصلنا الى البيت اعلموني بان العشاء ينتظرني في بيتهم وعلى ان اترك الحقائب وان نتوجه انا ومحمود معهما الى البيت الذي يبعد عدة مئات من الامتار عن بيتي.
في الطريق كان محمود ورامي يضحكان علينا ويلعبان باعصابنا. كانا يعرفان فرامي شقيق نجوى التوأم كان قبل كل شيء صديقها ومحمود صديقي الوفي الذي لا اخفي عنه سراً حتى بعد عشرين سنة من غيابي عنه. كلما ابتعدا لعدة امتار عنا وبدا لنا اننا نستطيع ان نتكلم كان يعودان وضحكة خبيثة تعلو شفاهما. آنئذ اغضبا نجوى التي بكل جدية طلبت منهما الابتعاد عنا وتركنا لعدة دقائق معاً. غير ان ظرافتهما وخفة ظلهما كانت خط الدفاع الاول الذي منع نجوى عن توجيه الضرب لهما. في النهاية وعدا ان يتركانا وحيدين في طريق العودة.
اعدت الخالة ام رامي كل شيء بانتظار حضورنا.
. وطبعا ما لا يمكن ان تتم السهرة دون وجود سميرة وسعيد وهالة. يا الله كم شعرت بالسعادة عندما عانقتني الخالة ام رامي مرحبة، عندما رأيت العيون الفرحة بعودتي. كان اجمل استقبال عرفته بحياتي. عندما عانقني سعيد مرحبا همس باذني "الف مبروك" وابتسم ابتسامة ذات معنى واحد. كنت ارى السعادة حولي وفي الجو تطير رائحة فرح جميلة، ليس فرح بعودتي. كان هناك شعور آخر جميل بان شيئاً رائعا يلد الان في هذه اللحظات. كانت أشهُرُ سفري هي أشهُرُ الحمْل والان حان وقت الميلاد. كان شعوري رائع بان الجميع يعرفون ويتقبلون هذه العلاقة. كنت على علم مسبق بان رامي يعرف ما بيني وبين نجوى وانه هو الانسان الرائع تقبل كل ذلك بمحبة وثقة، ثقته بنجوى ثقته بي. لكنني حتى اللحظة لم اعرف ما هو رأي الخالة ام رامي تلك المرأة الصابرة العظيمة التي فتحت لي قلبها وبيتها وعاملتني كما تعامل ابنائها. نظرت الى عينيها بحثا عن أي جواب دون امل.
حتى اللحظة لم تحن لي الفرصة لكي اتكلم على انفراد مع نجوى. لم تكتب لي برسائلها ان حدثت الخالة ام رامي عن اي شيء. كنت اعرف مدى العلاقة والصراحة التي تربط افراد هذه الاسرة. كنت اعرف انه لا يوجد موضوع محرم ولا موضوع خجل فيما بينهم. ولكن هل قالت لها؟ هل اخبرها رامي؟
كانت الخالة مثل امي تماما. حتى تجربتها الحياتية كانت قريبة جدا من تجربة امي. كلاهما فقدتا زوجيهما وهن في ربيع العمر، رفضتا الزواج من اخرين وقررتا ان تضحيا بكل شيء من اجل مستقبل اطفالهن. كانتا ايضا متقاربتين في العمر.
ارتفع الصخب عاليا في الغرفة عندما فتحت الخالة الباب المطل على الحديقة فهبت على الغرفة نسمة منعشة. نظرت الي وقالت باسمة: "لم ترَ بعد الورد الجوري بالحديقة. تعال شاهده". نهضت من مقعدي وانا انظر متسائلا الى نجوى. لكنها ابتسمت لي ابتسامة لم استشف منها الرد على سؤالي.
في الحديقة حدثتني الخالة عن الورد وعن العرائش الحديثة في الحديقة لعلمها بولعي بالورد الجوري والياسمين وشوقي لرائحة هذه الورود التي فقدتها خلال فترة وجودي في براغ. حدثتني عن العناية بالخصل الجديدة واهمية الحفاظ عليها من الامراض المختلفة. لم اكن اعرف ان كانت فعلا تتحدث عن الورد ام انها ارادت ان تقول لي شيئا محددا بطريقة غير مباشرة. عندها استوقفتها وسألتها ان كانت تعلم ما بيني وبين نجوى. فقالت لي ان لها ثقة غير محدودة باولادها وان ما بيني وبين نجوى هو بيننا فقط وان ما بينهما لا يعرفه احد غيرهما.
كاد قلبي ان يطير من الفرح وان اشعر من كلامها وطريقة قولها عدم معارضتها بل وايضاً تأييدها. كانت فعلا اماً ثانية قالت ما ارادت بحنان وعطف، قالته بصدق نابع من قلب انسان طيب. اعربت عن مخاوفها، سألتني عن رأي امي، عن قناعتي بنجوى عن اشياء كثيرة. تحدثنا طويلا في الحديقة قبل ان ننضم الى الصحبة لتناول فنجان القهوة العربية. عدنا وقد امسكت بذراعي باسمة.
مرت عدة ساعات منذ هبوط الطائرة ونجوى امامي لكنني لم استطع ان اتحدث معها، وكلما استعجلت الجمع للخروج كان سبب ما يمنعنا من المغادرة. لم يحالفني الحظ كي اتكلم معها تلك الليلة. فحينما خرجت بصحبة محمود كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ليلاً وفي دمشق حظر تجول غير معلن.
في ظهيرة اليوم التالي كان موعدنا في مقهى الجندول. كان هذا المقهى الصغير محطة لقاء للمعارضين من شتى انحاء العالم العربي. كان لي فيه اصدقاء كثر من السودان، من ارتيريا، من البحرين، من العراق، من المغرب .. الخ. كان قطعة وطن صغيرة توزعت في ارجاءه طاولات حركات التحرر العربية ورجال المخابرات. ابتسم النادل التونسي مرحباً حينما رآني واحضر كالعادة فنجان قهوة وكأساً من عصير الليمون.
رأيتها وهي تدخل باب المقهى باحثة عني.
ضمت شعرها الحريري خلف رأسها فبدا فعلا مثل ذنب فرس جميلة. كانت طبيعية بكل ما يمكن ان تعنيه هذه الكلمة، غير متكلفة لا في حركاتها ولا في قولها ولا في ملبسها. بسمة دافئة زينت شفتيها كالعادة، وعيناها الخضروان تنمان عن فرح وسعادة. اقتربت مني وقلبي يزداد نبضاً. ما هي الا ثوان حتى تصبح نجوى لي وحدي.
مدت يدها النحيفة مرحبة فاتحدت رائحة الياسمين مع رائحة القهوة الندية لتنشر للجميع نبأ وصول نجوى. اقتربت مني فشعرت برغبة عارمة بضمها الى صدري. غير انني تمالكت نفسي ونهضت من خلف الطاولة مرحبا.
لم نبدأ الموضوع منذ البداية. بل اكملناه من حيث انتهى في رسائلنا. تحدثنا عن كل شيء ولم نعر اهمية لا للعيون التي تراقب لمسات يدينا ولا للاذن التي كانت تتنصت علينا ولا للوقت الذي اخذ يركض بسرعة غير معهودة. اقتربت الساعة التاسعة ليلا عندما خرجنا من المقهى باتجاه جسر فكتوريا. سارت الى جانبي وقد تأبطت ذراعي الى ان وصلنا الى تقاطع طرق صغير عندها قالت لي هل تذكر هذا المكان؟ كان هو نفس المكان الذي امسكت فيه بيدي لاول مرة وادعينا العشق.
. هذه المرة ايضا امسكت بيدي ووضعت رأسها على كتفي. وكان ذاك كل ما ينقصني لتمام السعادة.
اتفقنا على اعلان الخطبة رسمياً وعلى الزواج. اتفقنا على اشياء كثيرة. اتفقنا ايضا على امور دراستها. كانت تريد دراسة الادب الانجليزي. خططنا لمستقبلنا بعد دراستها، قررنا انجاب ثلاثة اطفال كحل وسط فهي ليس لها الا شقيق واحد، وكانت تود ان تكون لها عائلة كبيرة تحمل ذكراها بعد الممات، اما انا فقد تربيت في اسرة كبيرة وكنت اود ان يكون لي عدد قليل من الاطفال. وضعنا الكثير من الخطط وطلبنا على ما يبدو الكثير من القدر.
كنا مثل طفلان في مخزن العاب يودان حمل كل شيء الى البيت. كنا مثل الغمام والمطر، مثل الياسمين والعطر لا يتم جمال الاول دون الثاني.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:07 am

1980 - 1981
الامتحان الثاني:
انهت نجوى السنة الاخيرة من الثانوية بمعدل جيد. وقدمت اوراقها للدراسة في جامعة دمشق. غير انه لسبب غير معلوم لنا تم رفض قبولها. كانت نجوى على قناعة بان السبب هو ان والدها الشهيد الذي كان من قادة احد الاحزاب اليسارية. كانت تكرر ضاحكة: "هذا ما جناه علي ابي"، خاصة وان اوراق رامي ايضا رفضت من كلية الهندسة. لم تكن مهتمة بقرار الرفض. كانت مصرة على اتمام دراستها، فقررنا بان تتقدم باوراقهما الى احدى جامعات بيروت وان يتما الدراسة هناك.
لم يكن من السهل علي القبول بهذا القرار. فنجوى كانت معنى حياتي اليومية ونصها كانت التفاصيل الدقيقة بكل معناها ومحتواها. كنا نلتقي كل يوم. تأني الى المكتب لتصحبني الى الغداء. اذهب اليها بعد الدوام او نلتقي مع الاحبة والاصدقاء في الامسيات الدمشقية الحنونة. فكيف سأقضي ايامي بانتظارها؟ لقد عانيت جدا اثناء وجودي في براغ ولم اكن ارغب بتكرار التجربة. ولكن مستقبل نجوى كان هو المهم. كانت طموحاتها وعنادها ترفض الحلول الوسط.
حفظت الطريق الى بيروت عن غيب.كنت اعرف مكان كل صخرة وكل حجر وكل شجرة على هذه الطريق. فرحلتي الاسبوعية لزيارة نجوى كانت اهم من كل شيء. حتى رجال الضابطة الفدائية الذين كانوا يقفون على الحدود السورية اللبنانية اصبحوا الطف في تعاملهم معي. الى درجة انهم في فترة من الفترات لم يعودوا يطالبوني بابراز تصريح المرور بل كانوا يأشرون لي من بعيد كي امر مجتازا بالطريق السيارات العديدة الواقفة على بوابة المرور.
اما نجوى!فقد عانت في البداية من حالة نفسية عصيبة جداً اظن ان سببها هو فراقها لدمشق لاصدقائنا لسهراتنا الجميلة ولتلك الامسيات التي كنا نقضيها على جبل قاسيون ونحن ننظر للمدينة المضاءة تحتنا ونحلم بخطط المستقبل. اعترفت لي انها قضت ليال طويلة وهي تبكي معانقة الوسادة. لكن عندما كانت تحضر بين الفترة والاخرى الى دمشق كنت ارى فيها نجوى التي عرفتها، تعود الفراشة ويعود الفرح ليملأ البيت والمدينة.
في لبنان كنت اقيم عند صديق لي في منطقة الروضة المطلة على بيروت. من هذه المرتفعات الحرشية كانت بيروت اجمل من كل المدن. كنت بصحبة نجوى نجلس وننظر اليها وهي تستحم عند الغروب بماء البحر ورائحة البارود تختلط برائحة الارز والصنوير. كم كانت بيروت عظيمة! كم مرة قطعت طلقات النار قبلات العاشقين! كم مرت افزعت الانفجارات عناق الاحباء! ولكن في كل مرة تجلت عظمة بيروت بتخطي هذه العوائق والعودة الى القبلات والعناق الحار. هل بقي في بيروت الغربية شارع لم يشهد قبلات بين حبيبين؟ هل بقي فيها مقهى لم نترك فيه جزء من ذكرياتنا؟ هل بقي على شاطئها ذرة رمل لم ترى اثار خطواتنا المتناسقة ونحن نسير متعانقين؟ كم غروب اخذ معه اسرار حبنا؟ كم قمر غاب ليخفي عن العيون صدى همساتنا؟ لذا احببنا بيروت. بيروت التي اتحد فيها الحب والموت، الياسمين والبارود، الصمت والانفجارات، الدخان الاسود والغروب القرمزي، العناق والقتال. احببنا بيروت التي تجلت فيها كل المتناقضات لتتحد وتصنع منها مدينة عجيبة غريبة مليئة بالعظمة.
مرت اشهر طويلة قبل ان ينتهي العام الدراسي قضيت معظمها في الطريق بين دمشق وبيروت وصيدا، بين شوقي اليها والتفكير بها ولهفتي للقائها وفرحتي بعناقها ودموع الوداع.
1981-1982
العودة
بفضل والد صديقتنا سميرة موعد تم قبول نجوى ورامي لاتمام الدراسة في جامعة دمشق. فعادت حبيبتي للاقامة في سوريا. لا زلت اذكر الفرح الذي عمني عندما اتصلت بي سميرة لتخبرني بذلك. كانت نجوى في صيدا وكان بامكاني ارسال برقية لها عبر اللاسلكي، غير انني تركت كل شيء وتوجهت فورا الى لبنان. بعد ثلاثة ايام كنت بطريق العودة الى دمشق بصحبة نجوى والخالة ام رامي. اما رامي فقد بقي لينهي بعض الاشياء قبل التحاقه بنا.
بعد شهر من العودة تم اعلان خطبة رامي وهالة رسمياً. في الصيف نفسه تزوج سعيد عمورة وسميرة موعد، اما نحن فحتى اللحظة لم نعلن بعد خطبتنا بشكل رسمي. عندما طرحت عليها المسألة ضحكت وسألتني ان كنت اريد اعلان الخطبة بسبب الغيرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:08 am

كان بيت سميرة وسعيد بيتنا الثالث. كثيرا ما كنا نقضي فيه الامسيات الرائعة بصحبة رامي وهالة وسميرة تقدم لنا في كل مرة سلطتها الشهيرة التي اسميناها سلطة الاصدقاء. اصبحت حياة سعيد وسميرة مثالا لنا. تعلمنا الكثير عن المشاكل التي تواجه الازواج الشابة، كنا نعرف كل شيء عنهما والعكس ايضا صحيح. حتى ان نجوى اطلقت على هذه الشلة لقب الثالوث المقدس.
اثناء العام الدراسي ابتلعت الدراسة كل اوقات الفراغ. انتسبت الى كلية الحقوق بعد ان اقنعني بها سعيد وهذه المرة ايضا بفضل تدخل والد سميرة. فكنت اقضي النهار بين العمل والدوام في الكلية لاعود مساءاً منهكاً وليس لي الا تفكير واحد: بعد قليل سأرى نجوى.
خلال هذه الفترة عرفت نجوى بكل تفاصيلها وهي كذلك. عرفت اكلتها المفضلة، شرابها المفضل، كم ملعقة من السكر تضيف لكأس الشاي او فنجان القهوة، متى تصحو من النوم، وكيف يكون مزاجها، كيف تمسك سماعة الهاتف ويكيف تفرك جبينها وهي تفكر بامر ما. كانت عيناها مرآة اقرأ فيها كل شيء. لم نعد بحاجة لاستعمال الكلام. تكفي نظرة واحدة لنفهم ماذا يريد الاخر. اصبحنا روحاً واحدة في جسدين، لكن رغم كل ذلك فقد كانت بيننا خلافات على الامور السياسية، على تقييم بعض الادب على نقدها لبعض ما اكتب. لم نكن نسيجا واحدا بكل ما تعنيه الكلمة، بل كنا قطبين متعاكسين يلتقيان كلما احتكا ببعضيهما البعض، وكان الاحتكاك يومي.
قمنا باعلان الخطبة رسميا يوم 21 آذار 1982واقمنا حفلا صغيرا اجتمع فيه عدد من اصدقائنا. كانت ايامنا مليئة بالعمل والنشاط المشترك ولكن كان فيها بعضاً من الوقت كي نخصصه لحياتنا الشخصية وللقاء الاحبة والاصدقاء وشراء احتياجاتنا للزواج. هيئنا كل شيء تقريباً وقررنا اقامة حفل الزواج يوم عيد ميلادها.
انتهى العام الدراسي. تخطت نجوى السنة واصبح تاريخ زواجنا يقترب بسرعة عندما فاجأنا الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان.
لم نفكر طويلاً. خلال ساعات قليلة كنت بصحبة رامي وسعيد وعدد اخر من الاصدقاء في لبنان. تم فرزنا انا ورامي الى القطاع الشرقي من الجنوب بينما ارسل سعيد الى بيروت. وصلتنا اخبار التضحيات العظيمة لابطال المقاومة المشتركة من القاطع الغربي والاوسط، بينما كانت قواتنا تندحر امام الدبابات الصهيونية. لم يكن من السهل على بنادقنا مواجهة الاليات الاسرائيلية. كان خبر سقوط صيدا صدمة عنيفة على رامي. في اليوم نفسه خضنا واحدة من اشرس المعارك مع القوات المعادية كاد رامي فيها ان يفقد حياته لولا رأفة القدر.
عندما عدنا بعد اسابيع الى دمشق، كانت بيروت لا تزال تقبع تحت الحصار وفيها سعيد وما عرفته لاحقاً ايضاً اخي واثنين من ابناء خالي مثل العديد من اصدقائنا. عدنا من الحرب إنسانان مختلفان. لم تفرح نفوسنا الاستقبالات الحارة التي اقامها لنا الاصدقاء، ولا الكلمات الجبارة التي سمعناها من امهات اصدقائنا الذين استشهدوا بين ايدينا ولا عبارات التعظيم للبطولات التي احيط بها المقاتلون. كان الموت قد اخذ جزءاً منها والخوف والترقب لما يجري في بيروت يقتل ما تبقى من امل رغم الفخر الشديد بالاسطورة التي كان يخطها المدافعون عن بيروت بدمهم. غير ان نجوى كانت سلوى روحي، وقفت الى جانبي رغم ضيق وقتها بسبب تطوعها للعمل في مشفى يافا الفلسطيني في دمشق. كانت تقص علي حكايات الجرحى، تروي لي الامهم ومعاناتهم، كانت تطيب خاطري لكن قبل كل شيء كانت تؤمن بالنصر. روت لي كيف التقت باخي الذي لم اره منذ سنوات وبابناء خالي، كانت تضرب المثل بهذا الشاب الصغير الذي ترك كل شيء وعبر الحدود الاردنية السورية بشكل غير قانوني مغامراً بحريته وروحه للوصول الى لبنان. كانت مثل ندى الصباح الذي انعش روحي بعدما فقدت العديد من الاصدقاء في هذه المعارك.
تقاسمت بعض العواصم من تبقى من اسطورة بيروت. خرج اخي جريحا الى اليمن بينما عاد سعيد الى دمشق. كانت عودته عرساً وطنياً عاد رافع الرأس منتصب القامة. كنا ونحن نعانقه مرحبين نعانق الاسطورة نعانق كل ابطال بيروت. لاول مرة في حياتي رأيت دموع نجوى. كانت دموع الفرح. بعدها في بيتي بكت طويلا. بكت ساعات. قالت لي انها لم تستطع البكاء عندما عدنا انا ورامي لانها لم تسمح لنفسها بالانهيار امامنا ونحن عائدين من ساحة القتال. كانت فخورة بما صنعنا بما صنع المدافعون عن بيروت.
***
لم يكن حضورها الى المكتب مفاجئاً. كان الجميع يعرفها، حتى ان مدير المكتب قال يوماً مازحاً انه سيضع اسمها على قائمة الرواتب من كثرة تواجدها عندي. خرجنا قبل الموعد المعتاد الى مقهى الجندول القريب من مكتبي. كانت الامطار قد غسلت شوارع دمشق ومآذنها وبدت الشمس تطل بخجل من بين السحب. كنت اعرف ان لديها شيئا مهما تريد ان تخبرني به. لكنني تعودت الا اسألها فعادة تخبرني بما تريد حينما تشاء هي. كنت احترم هذه الخصلة فيها واقدر رأيها وحريتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:10 am

عندما دخلنا المقهى خلعنا معاطفنا المبللة وجلسنا في زاوية بعيدة عن رجل المخابرات الذي جلس قرب المدفئة. ازداد خديها احمرارا من قسوة البرد الكانوني وارتجفت شفتيها. شعرت بدفء كفيها عندما احتضنتهما بين يدي والكلمات الجميلة تخرج دون ارادتي من فمي.
حدثتني عن ذكرياتنا في بيروت وصيدا، ذكرتني بابيها عن اصدقائنا الذين فقدناهم ايام الاجتياح. ذكرتني بارتباطها بحركة المقاومة الوطنية اللبنانية واخبرتني فجأة وبجدية لم اعهدها من قبل بانها مضطرة للتوجه الى صيدا والاقامة فيها لبعض الوقت. كنت اعرف انه معارضتي لن تجدي فقد اتخذت قرارها وكنت اعرف ان كنت ساخيرها بين حبها لي وحبها للوطن فستختار الاخير. لم اسأل عن التفاصيل، بل سألت ان كانت ستكون هناك آمنة. فردت بان "الاعمار بيد الله". اخبرتني بانها ستكون حلقة وصل بين بعض المجموعات المقاتلة في الجنوب. لم اكن بحاجة لشرح اكبر ولم تكن قادرة رغم ثقتها الغير محدودة بي على اعطائي اية تفاصيل.
كنت بداخلي اشعر باني في هذه اللحظة افقد نجوى. تذكرت ما كتبته لي في احدى رسائلها عن شعورها بقصر الحياة وسبب قيامها بكل شيء بسرعة. شعرت بخوف شديد في قلبي ذكرتها بان عليها ان تشيخ الى جانبي وان يجب ان ننجب ثلاثة اطفال. قلت كلاما لم اعد اذكره ففي حين كان لساني يحاول طمأنتها وتشجيعها، كان قلبي يعرف ان الشر قادم لا محالة.
اليوم بعد مرور عشرين سنة على حديثنا هذا اشعر بالندم. اشعر بمسؤولتي عما حدث لاحقاً.
رأيت نجوى ثلاث مرات منذ انتقلت الى صيدا. كان الحزن والخوف باديا على وجوه الجميع: الخالة ام رامي قلقة وكثيرا ما تهطل الدموع من عينيها حينما كنا نلتقي جميعا في بيتها بغياب نجوى. تغيرت كل خطط المستقبل. تأجل زواجنا وزواج رامي، العم ابو ناصر والد سميرة توقف عن مطالبته بانجاب حفيد له واصبح حديثه الوحيد عن نجوى، تغيبنا عن الامسيات الشعرية التي كانت تقام في البيوت، لقاءاتنا شبه اليومية في بيت سعيد وسميرة تحولت الى لقاءات للبحث في مستقبل مجهول. كانت نجوى بسمة افتقدناها، كانت الامل الذي غاب عنا، عبير الياسمين الذي ضاع امام رائحة البارود.
كنت صباحا ومساءاً افكر بها، اين هي الان؟ ماذا تفعل؟ هل هي في مكان آمن. لم يكن شوقي لها وخوفي عليهاوانا في براغ يوازي ربع ما اشعر به الان. ولم يساوي تفكيري بها وانا بصحبة رامي نخوض الحرب جزءاً مما يدور في ذهني في هذه اللحظات، كنت اعلم آنذاك بانها بخير، اما الآن؟
حينما تلقيت الاشارة عبر اللاسلكي صعدت السيارة واتجهت الى لبنان. كان هذا لقاؤنا الثالث. رغم عدم استقرار الوضع والتصفيات والاتهامات المتبادلة وحتى القتال في البقاع بين ابناء الصف الواحد لم يكن بامكاني التردد عن لقاء نجوى. كان يوم عيد الام.
نظرت الى عينيها التي ملأهما الخوف والالم. رأيت حقدا غريبا في عيون ما عهدت منهما سوى الابتسام والحب. شعرت بخوف شديد عليها. حدثتني بشيء من التفصيل عما تقوم به. كنت اسمع دقات قلبي اعلى من صوتها الذي كسر مرحه ما رأته من مذابح وسقوط الرفاق. حدثتني عن رفاقها عن الشباب الذين استشهدوا ولم يعرفوا سوى حب الوطن، لم يعرفوا الا معنى الشوق الى الحرية ولم يقبلوا في يوم شفاه غير شفاه الارض. لم تعد امامي نجوى الرومانسية رغم شعوري بحبها لي رغم القبلات الحارة التي اشتقت اليها. كانت نجوى المقاتلة. كانت نجوى اللبوة التي رأيتها اثناء لقائنا الثاني في دمشق.
طلبت منها العودة معي. رفضت. استعملت كل الحجج والاسباب التي قد تقنعها للعودة حتى ولو لفترة استراحة قصيرة في دمشق. رفضت. لم يعد لدي الصبر. كنت ارى انها متعبة وان تعبها هذا سيؤدي الى مصيبة، الا انها رفضت كل ما قلته حتى عندما اخبرتها عن دموع امها اجابت ان الامهات في الجنوب يبكين ليل نهار. لم اعرف متى فقدت السيطرة على اعصابي، كان نقاشنا صراخاً فاخبرتني انها ستعود فوراً الى الجنوب وتريد ان ترى الابتسامة على وجهي وتريد ان تسمع كلمات التأييد لما تقوم به، لكنني بكل حزم اخبرتها انني عائد الى دمشق وان لم تتوجه معي فكل شيء سينتهي وعليها ان تتخذ القرار.
كما عهدتها لم تتردد. ابتسمت لي ابتسامة رائعة وقالت بدلالها المعهود لا تفقد الامل انا انتظرتك طويلا والان الدور عليك.
خرجت غاضبا وخائفا وتوجهت الى دمشق.
عندما وصلت في المساء توجهت الى بيت الخالة ام رامي. كان الغضب والخوف باديان على وجهي. حدثتها عن كل شيء رأيت دموع الحزن تنهمر من عينيها، لعنت نفسي وطمأنتها ان نجوى وعدت بالعودة قريبا.
في الصباح ايقظني رنين الهاتف. طلب مدير المكتب ان احضر فورا الى المجلة. عندما توجهت الى مكتبه كانت الوجوه حولي حزينة. حتى الزملاء الذين لم تربطني بهم علاقة حميمة كانوا يحنون رأسهم بالتحية فشعرت بشيء غير طبيعي يدور حولي.

اشعل سيجارة وطلب مني الجلوس وخرج من وراء مكتبه ليجلس قربي على الاريكة البنية. سألني ان سمعت خبر غارة المروحيات الاسرائيلية في الجنوب مساء امس. لا اعرف لماذا ولكن فورا شعرت اني فقدت نجوى. كانت اول انسان خطر ببالي وهو يطرح علي السؤال. لم اسمع ما قاله بعد ذلك. كأنما تحدث عن فتاة اخرى،لم توقف السيارة، ان صاروخا اصابها، انهم وجدوا اشلاء جثتها.
لا! لا! هذه ليست نجوى! نجوى كانت تعانقني يوم امس. لازلت اشعر بحرارة قبلتها على شفتي. لازال صوتها يغرد في اذني. لا! نجوى اكبر من ان تموت! اذكى من ان تسير بسيارتها اثناء غارة. لا! هذه ليست نجوى! نجوى لا يمكن ان تصبح اشلاءاً محروقة في بقايا سيارة. لا! نجوى لا يمكن ان تتركني وحدي. لا! نجوى لا زالت تعانقني. لا! نجوى لا زالت تناقشني وتقنعني بانها ستعيش طويلا وتموت من الشيخوخة الى جانبي. لا! لا! لا!
مضت ثلاثة اشهر وانا قابع في غرفتي لا استقبل الضيوف ولا ارفع سماعة الهاتف. مضت ثلاثة شهور وانا انتظر خبرا من نجوى. انتظر اشارة عبر اللاسلكي كي اركب السيارة واطير الى البقاع. مضت ثلاثة شهور فقدت خلالها كل شيء. فقدت حبيبتي فقدت الامل فقدت قلمي وكلمات الفرح. لم يعد لحياتي معنى لم اعد اهتم بشيء. فقدت الاتصال بالعالم المحيط. كنت قابعاً في غرفتي اقرأ رسائل نجوى. اكلمها على الورق. اعتب عليها كيف غدرت بي وذهبت دون وداع. كنت العن نفسي. احمل نفسي مسؤولية رحيلها. لو انني لم اغضبها! لو انني ترويت قليلاً لو اني بقيت معها حتى الصباح. لو لو لو لو لو.
مضت ثلاثة اشهر طويلة وانا ابكي واعانق مناديلا حريرياً ابيضاً تركته عندي واشم وردة جورية خبأتها يوما في كتاب. كان هذا كل ما بقي عندي من نجوى.
قاربت الساعة السادسة مساءا عندما فتح محمود الباب وسمعت صوتها مرحبة. لم يكن الصوت المرح الذي عرفته بل كان صوتا حزينا. طرقت باب غرفتي. لم ارها منذ استشهاد نجوى حينما سقطت على الارض واغمي عليها. اخبرني محمود عدة مرات بانها تريد لقائي. الا اني لم اعر انتباها لشعور الاخرين. كنت اظن اني صاحب المصاب الوحيد.
سميرة فقدت حملها حين سماعها الخبر. رامي كاد ان ينتحر من شدة الالم، الخالة ام رامي فقدت وعيها ولم يبق بينها وبين الموت الا القليل. العم ابو ناصر اقام بيتا للعزاء ووقف باكيا يستقبل وفود المعزين برفقة رامي وسعيد ومحمود. كان العم ابو ناصر قد خطب لي نجوى رسمياً، وكان يحبنا ويعاملنا مثل اولاده. اكثر من مرة ردد مازحاً انه "ابو المقاطيع". هالة اعترفت لاحقا بانها كانت تتناول حبوب للتهدئة. تألم الجميع الا انني الوحيد الذي لم يرى ما يدور حوله. تألم كل من عرف نجوى، تألم زملائي في المجلة رفاقي في التنظيم، حتى امي التي لم ترى نجوى ولا للحظة اقامت بيتاً للعزاء في الاردن!
فتحت باب الغرفة دون انتظار الجواب. نظرت الي بحزن وباستهجان وتعجب. لم تقل كثيراً ولم اسمع في صوتها الا عبارات التأنيب القاسي من ام لابنها:
هل تظن ان نجوى قد تقبل ان تسير الى جانبك في الشارع وانت بهذا المنظر المؤسف؟ قالت –
لم تنتظر جوابي بل انذرتني وقالت انه بعد نصف ساعة يجب ان اكون جاهزا للعشاء بدون هذه اللحية السوداء وبدون هذا الاسى الشديد في عيني ثم خرجت من الغرفة لتنتظرني في غرفة الضيوف. لم يكن هناك مجال للرد او النقاش. كانت الخالة امي رامي تأمرني ولا تطلب مني.
في بيتهم الذي دخلته للمرة الاولى منذ رحيل نجوى وجدت جميع الاصدقاء. رأيت والدي سميرة، والدي هالة، والدي سعيد. كانت صورة نجوى بابتسامتها الطفولية الرائعة وقد على زاويتها شريط احمر تنظر الينا من على الجدار. كانت روحها تطوف بيننا وكل منا خلسة ينظر بين الحين والاخر الى تلك الفتاة الباسمة ويعيد ذكرياته معها. تحدثنا عن كل شي ولكن لم يجرؤ احد على ذكر نجوى. لم نعتد بعد على غيابها ولا على الحديث عنها بظرف الماضي ولا بصيغة الغائب. كانت نجوى بيننا وفي داخلنا. لكل واحد منا كانت تجاربه الخاصة معها. كل واحد كان ينظر اليها من منظار ما رآه من تلك الفراشة الجميلة.
تحدثنا طويلا عندما نهضت الخالة ام رامي وسألتني ان رأيت خصل الورد في الحديقة. تذكرت نجوى. تذكرت ليلة عودتي من براغ. خرجت بصحبة الخالة الى الحديقة. تحدثنا بالصراحة ذاتها والعاطفة التي اعتدت عليها. بكت، وقالت لي انه حتى وان ذهبت نجوى فقد بقيت انا وعلي ان اعيش وان احمل مشاق ذكراها.

ملاحظات اخيرة
بعد اشهر غادرت دمشق لاخر مرة مجبرا بعد حادثة مؤسفة. كان الوداع في بيت الخالة ام رامي حيث التقيت بها وباصدقائي لاخر مرة *
بعد تحرير صيدا عادت الخالة ام رامي اليها واقامت فيها حتى وفاتها في العام 1997*
انجب سعيد وسميرة عمورة ثلاثة صبيان وابنة واحدة اسموها نجوى*
تزوج رامي من هالة وانجبوا صبيين صلاح ومرسيل*
لم يعثر على اية بقايا من اشلاء نجوى لذلك اقيم لها نصب في مقبرة صيدا*
اما انا فقد تزوجت وانجبت طفلا اسميته غيث كما كانت تريد نجوى ان نسمي ابننا*
مض عشرين عاما على رحيل نجوى ولا زلت احمل ذكراها في قلبي بكل التفاصيل الدقيقة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:11 am

قصة كانت لهم اسماء


شهداء معركة عين عطا 10 حزيران 1982
من مجموعة صخور كنعانية
لم يكن اتخاذُ القرارِ صعباً. لم تكن هناك حاجةٌ للنقاش الطويل او حتى للتوضيح، فالمسألة واضحة للعيان. فهي ابنة الجنوب الثائر التي تربت في كنف امها بعد اغتيال والدِها كانت تعرف ان قراره للالتحاق بالتعبئة العامة هو نتيجةٌ طبيعة لتربيته، وفاءا لدماء جدِه ودفاعا عن مستقبلهما كافراد. كانت تعلم ان قراره جاء ايضا للدفاع عن تراب الوطن الذي كانت تقدسه.
لم يكن قرارُه هذا مظاهرة لوطنيته التي حرص على ابرازها في كل مناسبة، بل حاجةٌ ذاتيةٌ للتعبير عن انتمائه لهذه الفئة القليلة من الناس التي اختارت طريقَ المقاومة لتحرير الارض واعادة الحقوق. كانت تعلم ذلك. فقط قبلته ودعت الربَّ ان ينصره. لم تنزف الدموع ولم توصيه بان ينتبه الى نفسه. بل قالت انها فخورةٌ به وبامثاله وان عليه ان يقاتل وان يرفع رأسها كما فعل الابطالُ اثناء الاجتياح في السنة السابقة.
كانت تدري ان شقيقها التوأم رامي لن يتخلفَ ايضا عن تلبية النداء. تعرف انه ورامي سيبقيا معا وسيدافعا عن ارض الجنوب وشعبَاهما حتى لو دفعا الدم الغالي ثمنا لذلك. قبلتهما ودعت بالنصر.
في معسكر التجمع بعدرا لم يخب ظنُه بابناء وطنه. مئات من الشباب في مختلف الاعمار ينتظرون ستار الليل كي يتجهوا الى الجبهة. كانت المعنويات عالية. الاناشيد الوطنية تنطلق من الحناجر وتهطل مثل ندى الصباح من مكبرات الصوت لتنعشَ القلوبَ ولتثيرَ رغبةً عارمةً على القتال. من سيتردد عن التوجه الى القتال وفي اذنه لا زالت تدق كلمات الاغاني والاناشيد الثورية؟ من سيبقى مشاهدا وهو يسمع "طالع لك يا عدو طالع" او "جر المدفع فدائي" وصوتَ ابي عرب الحنون وهو يغني لفلسطين، لكل مدينة وقرية؟
استطلعا ورامي الوجوه الباسمة المليئةَ بالاصرار وتخمنا المكانَ الذي سيتم نقلهم اليه. كانت وجوه فتية، اطفالٌ كتب عليهم ان يحملوا البندقية كي يعيشوا، شباب عليهم ان يخطوا بالدم تاريخَ شعبِهم ومستقبلَ الابناء. كان يدركون ان الكثير منهم لن يعود، ولكن هذا هو ثمن الحرية الذي يجب ان يدفع. كانوا يعرفون ان افق الحرية يقاس بعدد الشواهد على قبور الشهداء، بعدد اكاليل الغار على رؤوس الجرحى وبعدد اليتامى ودموع الامهات. من قال ان الحريةَ توهب؟ من قال ان النصرَ يأتي باسما والانسانُ مستلقيا على السرير؟ لقد اخطأ من ظن ان ضريبة الدم يمكن ان تكون وهمية.
حدثه رامي عن ابيه الشهيد، عن طفولته قرب ساحة رياض الصلح في صيدا، عن لعبه على شاطئ البحر. كاد يشتم رائحة الزوارق وكاد رزاز الامواج يصل وجه حينما لمح عيونا تبتسم اليه من بين الجميع. بدا له ان رواية رامي اخذته فعلا الى طفولته البعيدة في مخيم قرب جرش، فها هو يرى وجه عيس البيرومي صديق طفولته يبتسم له، والى جانبه احمد المجدلاوي الذي عرفاه في فترة من ايام الطفولة. رأى طيفين نهضا من بين الوجه الشابة واقتربا فاتحين ذراعيهما.
مضت سنوات عديدة منذ لقائِهم الاخير. عيس البيرومي واسرته انتقلوا الى الكويت، اما احمد المجدلاوي الاردني الاصل، فلم يسمع عنه شيئا منذ رحيلهِ مع اهله الى عمان. والان يتخيل طيفيهما. لا يعرف من اين اتت الحاجة لتذكر اصدقاء الطفولة. هل هو الحنين الى الشقاوة البريئة؟ هل هي حاجة الى الاختباء خلف ذكريات الطفولة الهادئة خوفا مما هم قادمون عليه؟ يتهيأ للانسان في ساعات الضغط الشديد والعصبية اشياء غير عادية فهل يدخل تخيله لعيس البيرومي واحمد المجدلاوي ايضا في هذا الاطار؟
في ذلك المخيم قضى رغم بؤس الحياة اجمل ايام حياته. هناك تعلم انه فلسطيني، تعلم حب الوطن، تعلم قسوة الحياة. هناك ايضا تعلم ان يعتز بفلسطينيته، كما تعلم ان اولوياتَ الحياةِ عنده تختلف عن اولويات الحياة لدى الاخرين.
في اكتشافاته الصغيرة العظيمة تلك صاحبه رفيقان: عيس البيرومي واحمد المجدلاوي.
حاول ان يطوف بعينيه على العيون السوداء التي احتلت ساحة الملعب، غير ان تلك العيون الضاحكة والايد الممتدة لتعانقَه لم تكن خيالا ولم تكن اطيافا بل صديقاه القديمان.
**
في الطريق الوعر من دمشق الى الجنوب اللبناني اخذت عشرات الشاحنات تنقل المتطوعين تحت ستار الليل. قبعوا قرب بعضهم في شاحنة المرسيدس الخضراء. ومن بين ضجيج المحركات وصلت الى الاذان اغان وطنية على لحن دلعونة. كانت الحناجر تردد كلماتَ الشوقِ لحبيب خلف الاسلاك الشائكة، لحبيب سرقت احلامه الغربة، لقرية يسقيها ندى الاجساد وعرق المعاول، لحيفا التي نامت حالمةً عند اقدام الكرمل، ليافا التي نزلت تغسل قدميها بالبحر، لعكا الصامدة، للعيون الصغيرة التي ترقب المستقبل في غزة، للايادي الغاضبة في الضفة، لجفرا التي ما فقدت الامل ولازالت تنتظر عودة الحبيب. كان صوتٌ حنونٌ جهوريٌ ينطلق من داخل الشاحنة يغني المقطع قبل ان تردده حناجر رفاق الطريق.
صوت شبيه جدا بصوت مغني الثورة ابو عرب مما احال التفريق بين الصوتين لولا هذه النبرة الشبابية التي ميزت صوته الجميل.
مضت ساعات الليل الحزيراني القصيرة والقافلة تصارع الطريق الوعر في جبال لبنان الشرقية. اصبحت معالم الاشياء واضحة للعين في هذا الضوء الرمادي. تلك الاشجار الشامخة وهذه الصخور التي تعترض طريق القافلة تلك الاجمات الشوكية التي تنتظر مطر الربيع الذي كأنه منع من الهطول هذه السنة. كان البعض قد اغمض عينيه عندما اخذ الشفق الاحمر يلون الافق واخذت الارض الوعرة تكشف اسرارها امامهم.
خلال هذه الساعات القليلة ولدت بينهم صداقة عميقة. كانوا يعلمون انهم يُوْدعون حياتهم ومستقبلهم في ايدي بعضهم البعض. اربعة عشر شاباً، اربعة عشر املاً واربعة عشر صخرة من ارض كنعان عاهدوا انفسهم وعاهدوا امهاتهم ان يعيدوا الماضي العتيد وعاهدوا اطفال شعبهم ان يصنعوا لهم المستقبل. في ضوء الشفق بدت وجوههم السمراء مليئة بالبراءة والامل.
**
رائحة البارود والحرائق تصل الى انوفهم ببطئ. رويدا، رويدا اقتربت اصوات الانفجارات من اذانهم لتصعقها بشدة. توقفت السيارة عند منعطف مطل على وادي جميل، وفي البعيد رأوا بيوت راشيا الفخار تغتسل باشعة الشمس الذهبية.
استقبلهم ابو العبد الشاب الاسمر الطويل ذو العينين السوداويين الثاقبتي النظر. رحب بهم بحرارة وقدم شرحا تلخيصيا للحالة على هذا القاطع من الجبهة. اخبرهم بان القوات المشتركة تتصدى منذ يوم امس لقوات العدو في هذه المنطقة الجبلية الوعرة، وانه رغم منع القوات عن الغازية التقدم فقد منيت الكتيبة بخسائر كبيرة من الابطال الذين لم يتوانوا عن تقديم ارواحهم لوقف تقدم العدو. قطعت كلماته بين الحين والاخر الانفجارات العنيفة والقصف المتوالي. كانوا يقفون على جانب الطريق الاسفلتي الضيق عندما توقفت قربهم سيارة المرسيدس المسرعة التي ظهرت فجأة من خلف المنعطف.
شو بتسوا هون؟ صرخ رجل في الخمسينيات عمره وهو يطل برأسه من المقعد الخلفي. ليش ما بتقاتلوا؟-
حاضر – رد ابو العبد بلهجته البدوية الجميلة – ولكن هاي مجموعة المتطوعين وتوهم وصلوا وبدي.. -
لم يدع الرجل ابا العبد يكمل كلامه عندما صرح به بلهجة الامر ان يتوجهوا فورا الى الخندق. انطلقت السيارة باقصى سرعة تاركة ورائها رائحة الكاوتشوك المحروق ومغطية على اصوات الطلقات وانفجارات القنابل.
لم يكن من السهل على المتطوعين التأقلم مع اصوات الرشاشات والبنادق خاصة وان الطلقات هطلت حولهم بكثافة والمروحيات الاسرائيلية تحلق عاليا وهي تطلق صواريخها على مواقع المقاومة. اما المضادات الارضية فقد كانت عاجزة عن فعل أي شيء. استمر القتال لساعات عديدة. تعلموا خلالها اهمية الحفاظ على ارواحهم. فالشجاعة ليست ان تقتل – كما قال ابو العبد – بل ان تبق ثابتاً في موقعك وان تمنع العدو عن التقدم. تعلموا الا يطلقوا النار بشكل عشوائي. تعلموا ان يقتنصوا اللحظة لكي يكون اطلاق النار مفيدا.
ترائت له عيونها وهي تضحك له. تذكر كيف قابلها لاول مرة، كيف عانقته بحرارة عندما عاد من سفره الطويل. تذكر وصيتها ويدها تلوح له ولرامي عندما غادرا يوم امس. كانت رائحة عطرها الياسميني تطغى على رائحة البارود، وصوتها الحنون يطغى على اصوات الانفجارات. في هذا الخندق وراء الساتر الترابي الذي يفصل بينه وبين الموت تذكر الحديقة المليئة بعرائش الياسمين والورد الجوري.
نظر الى رامي، عندما هز انفجار عنيف الخندق. حنى رأسه كردةِ فعل طبيعية وشعر بالم شديد في ظهره، اثر ارتطامِه بشيء مصاحب لكمية هائلة من الغبار التي سقطت فوق رؤوسهم. كان واثقا ان حجرا او غصن شجرة اصابه في ظهره. مد يده يلامس مكان الالم فشعر بشيء لزج على البدلة الخضراء. سحب يده خائفا بسرعة ونظر الى كفه الملطخة بالدم الاحمر، فكاد ان يقفز من هول المفاجئة. مد رامي يده خلف ظهره وقد جحظت عيناه. اخرج يدا مقطوعة وقد تشبثت بقوة ببندقية. كانت يد عبد الكريم الشاب ذي السابعة عشرة من عمره، الذي رافقهم الرحلة من دمشق وتركهم هنا ليترقب انتصارهم من مكان ما عال في السماء.
اختفت الشمس خلف الافق الذي حددته الوان الغبار والدخان الاسود عندما امرهم ابو العبد بمغادرة الموقع والانسحاب الى الخلف. خفت قليلا اصوات الانفجارات التي تخللها بين الحين والاخر اطلاق رصاص كثيف.
لم يدري كم مضى من الوقت عندما فتح عينيه ووجد رامي وقد غفا مستنداً بجسمه النحيل الى شجرة زيتون فبدا كجسد واحد، مثل الام التي احتضنت رضيعها. يرتكز الى الشجرة ويستمد منها القوة وارادة الحياة. بينما استلقى عيس على جانبه الايمن وقد عانق بندقيته. هكذا يجب ان يكون العناق. بدا كعاشق ضم الى صدره حبيبته بحنان، وتوحدا بصمت، ثم اغمضا عينيهما فلم تعد تعرف اين ينتهي احدهما ويبدأ الاخر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:12 am

اما احمد المجدلاوي الذي فقد جلس ساهماً ينظر الى السماء ويتمتم باشياء بدت كالدعاء. عندما سأله ماذا يدعو اجاب بابتسام انه لا يدعو بل يكرر بعض قوانين الفيزياء كيلا ينساها، اذا انه لم ينه امتحاناته بعد ويريد ان يقدمها بعد الحرب. تأمل رفاقه فخطر بباله عبد الكريم الشاب الصغير الذي مضى عصر اليوم. فكر بامه، بخطيبته التي تركها في دمشق، فكر باشلاء الجثث التي رأها لاول مرة في حياته، اجزاء تبقت من ابطال المقاومة.
ارتفع من جديد صوت اطلاق النار الكثيف. عادت القذائف لتتساقط عليهم بغزارة. هرعوا بامر من ابو العبد الى خندق قريب. هدير محركات الدبابات اختلط باصوات القنابل والرصاص. فقد اخترقت قوات العدو خطوط الدفاع الامامية واخذت بمحاولة الالتفاف عليهم. عندها سمعوا من بين زخات الرصاص اوامر صدرت من مكان ما عبر اللاسلكي بالانسحاب. حاول ابو العبد توضيح شيء، الا أن الصوت امره باخلاء الموقع فوراً والانسحاب الى النقطة المحددة في عين عطا.
في الطريق الى عين عطا سارت مجموعات المقاومة بصف طويل بين الجبال. رغم الخسائر الكبيرة والجراح التي منيت بها ورغم الانسحاب من الموقع الذي دافعت عنه باستماتة الا ان المعنويات كانت عالية جداً. اخذت الاصوات تردد اغاني الثورة، من بين الجميع تميز الصوت الحنون نفسه الذي لم يمل الغناء منذ صعود الشاحنة في دمشق. في هذه الوديان، لم يكن صوته شبيها بصوت ابو عرب، بل كان الصوت نفسه والنبرات الحنونة تذكر بتاريخ قرانا ومدننا الواقعة على بعد عدة عشرات الكيلومترات. كانت اصوات الاناشيد مسموعة عن بعد، فقد حملتها الوديان واخذ الصدى يرددها.
فجأة علت اصوات الطلقات النارية، عدة رشات متوالية، اسكتت الاصوات الجميلة التي كانت تهتف لفلسطين، للثورة وللفداء. كانت المجموعات قد وصلت الى نهاية مضيق بين جبلين وبدأت فسحة واسعة بين الوديان زرعت فيها سنابل القمح واشجار زيتون. سقط خمسة مقاتلين كانوا في مقدمة الفصيلة وجرح اثنان منهما الملازم ابو العبد الذي اخذ يصيح باتجاه الخندق الذي اطلق منه الرصاص والواقع في الطرف الاخر من الحقل بان يتوقفوا فنحن رفاق. صاح ايضا على افراد فصيلته الا يطلقوا النار. توقف اطلاق الرصاص وطُلِبَ من الفصيلة التقدم.
هرع الجميع باتجاه افراد المجموعة الاولى الذين سقطوا وبسمة ملائكية تعلو وجوههم. سقطوا والجبال لازالت تحمل اغانيهم الى فلسطين، سقطوا وهم يعانقون السلاح. سالت الدماء الزكية على الارض لتسقي السنابل الخضراء .
كرر ابو العبد نداءه بألا يطلقوا النار على اخوة السلاح. صرخ من الالم ومن الرغبة في الحفاظ على ارواح الفتية. حمله اثنان بين حمل الاخرون الجريح الثاني وجثث الشهداء وساروا بهم بسرعة باتجاه الخندق السوري طلبا للنجدة. وصلت الفصيلة وسط حقل القمح عندما عاد اطلاق النار بكثافة.
لم يكن اطلاق النار من الخندق السوري هذه المرة، بل انطلق من عدة جهات من الجبل. رمى بنفسه بين السنابل وقد احتار امره، وجد الى جانبه احمد المجدلاوي وقد استلقى على بطنه قابضاً عليه بكلتي يده وبندقيته امامه. سأله بشك ان كان كل شيء على ما يرام، الا ان احمد صديق الطفولة الذي عاد ليلتقي به قبل يومين لم يجب. امسك به وادار رأسه نحوه ففاجأته نظرة زجاجية باردة مليئة بالالم. سقط احمد وهو يفكر بالامتحانات وانهاء السنة الدراسية.
تساقط الرصاص حوله وقذائف الهاون انفجرت قربه. اختلطت اصوات الانفجارات مع صراخ الجرحى وطلقات المقاومة الشرسة. فكر بسرعة برامي وعيس البيرومي. اين هما الان، هل شاهدا سقوط احمد المجدلاوي؟ هل سقطا ام انهما يطلقان النار باتجاه الجبل مثل كل من بقي على قيد الحياة؟ لم ينتظر طويلا. كان موقعه مكشوف وقد تركزت الطلقات عليه. رفع رأسه فرأى الجنود الاسرائيليين يطلقون النار من وراء الصخور البعيدة عشرت الامتار عنه. لم يكن وحيدا في معركته هذه. كانت اصوات الكلاشنكوف المميزة والمدافع الرشاشة لرفاق السلاح خير رفيق في هذه اللحظات الصعبة. رأى الموتَ يعانقه. رآه يمد يده نحوه. لكن ارادته بالاستمرار في الدفاع كانت اقوى. فصله عن قوات العدو سور حجري منخفض، رفع فوهةَ بندقيتِه واطلق عددا من الرصاصات. صوب مرة ثانية، ضغط الزناد ونهض راكضا. سمع صفير قذيفة الهاون وهو يركض فرمى بنفسه خلف السور. وجد على يمينه عيس ورامي يطلقان النار. نظر اليهما بفرح واخذ باطلاق النار على العدو. حاولت سيمفونية الموت قطع نشيد الحياة، المعزوفة الشاذة تحاول ان تطغى على صوت اليرغول الاصيل. تطايرت احجار السور والتي تشكل آخر فاصل ما بين الحياة والشهادة ولم يبق منه سوى امتار قليلة تصد بصدرها حقد العدو.

كادت اصوات بنادق الرفاق ان تصمت، بدأ الحزن يدب في قلبه وهو ينصت الى الوصلات المتقطعة من بنادق الكلاشنكوف. لم يعد يسمع انات الالم ولا صرخات البسالة. حاول ان يَعُدَ الاماكن التي لازالت تقاوم ليقدر عدد الاحياء لكنه لم يستطع. ضاعت صرخاته الحماسية المتكررة في الصدى فلم تجاوبه غير الجبال. في هذه اللحظة تناثرت حولهم طلقات كثيفة. رفع رأسه قليلا ليحدد مصدرها. فقابلت عيناه نظرات الجندي الاسرائيلي الحاقد. اراد ان يطلق النار عليه، لكن البندقية تعطلت. فبادر الجندي باطلاق نار كثيف. صرخ على رامي وعيس البيرومي كي يغطوا عليه. فقد اصبح في متناول الجندي الاسرائيلي:
وينه هذا ابن الكلب؟ خليني اشوفه – هتف عيس البيرومي. -
لا ترفع راسك. بس طوخ باتجاه اليسار - صرخ بصديق طفولته.
خليني بس اشوفه ابن الشرمـ -
لم يكمل جملته. نهض من مكانه ليرى كيف يغطي على صديقه واطلق عدة طلقات. لم يصرخ ولم يتألم. لم ينزف كثيرا من الدم. فقط شهق شهقة عميقة وعانق بقايا السور الحجري. لم تسقط بندقيته من يده بل نظر الى صديق طفولته وفي عينيه ابتسامة رائعة. ابتسامة تعجز الكلمات عن وصف جمالها. نظر اليه ونطق اخر كلماته: "اسف" ثم سقط رأسه على صدره وهو يعانق صديقه بقوة.
عيس البيرومي كان منذ طفولته عنيداً.لم يكن يصدق الا ما يراه. كم مرة طرده المدرس من المدرسة على ما كان يسميه قلة الادب. كان شجاعا لا يتردد عن طرح الاسئلة المحرجة. كان يفكر. كرر مراتً عديدة انه ان لم يفهم الشيء لا يمكن له ان يحفظه. كان شقياً بكل ما تعنيه الكلمة. بعد ساعات الدوام تفنن في اختراع الالعاب واكتشاف قوانينها. كان "زعيم الشلة".
تذكر حادثة وهما في الصف الثالث عندما طلب منه المدرس في الخيمة التي كانت تشكل مدرسة الوكالة ان يعتذر.
عن ايش يا استاذ؟ ما هم ما حاربوش، بكل نابلس ما كانش في ولا جندي واحد منهم ما انا كنت هناك. انت كنت بنابلس يا استاذ؟ -
صرخ المدرس به وطرده من الخيمة فحمل كيس الخيش وقال وهو يخرج:
يا ريتك يا استاذ كنت بنابلس يوم ما احتلوها الاسرائليين لكنت ما قلعتني -
خرج ولم يعتذر.

خفت حدة الرصاص الموجه اليهم. كانت الذخيرة مقبلة على النفاذ. نظر الى رامي وهو يعانق جسد عيس البيرومي والدموع تهطل من عينيه.
رحمة الله عليه. هم السابقون ونحن اللاحقون – قال رامي -
استشهد وهو بغطي علي – اجابه صديقه -
غرق في بحر الحزن بعد فقدان صديقي طفولته. نظر الى رامي فتذكرها . اعاد ما قاله رامي منذ قليل "نحن اللاحقون"، بدا له وجهُ امِه، رأى وجهَ امِ عيس البيرومي وامِ احمد المجدلاوي، تخيل وجهَ امِ رامي. "من سيحمل الخبر اليهن؟ هل سيبكين ام انهن سيطلقن الزغاريد؟" اسئلة كثير راودت خياله. نظر الى جسد معن مطر ابن مغني الثورة ابي عرب الذي سقط على مقربة منهم وفي اذانه لا زال يتردد صوته الحنون. جف حلقه وقد فرغت مطرة الماء.
من قال نحن اللاحقون؟ هتف فجأة الى رامي – الله مجعولك تفكر بالموت -
ولك وين الحياة؟ مش شايف كل اصحابنا استشهدوا يعني هم احسن منا؟ -
احسن ولا مش احسن -
في ايام طفولته كان للشهداء اسماء. كان الشهيد هو فلان ابن فلان من المكان الفلاني. وكانت الامم تحصي كم هنا من اليتامى وكم بقي من الارامل. عندما كان للشهداء اسماء، كانت لهم اضرحة وكان الاشبال والزهور يزورون قبورهم.
عندما كان للشهداء اسماء كانوا بشرا ولكنهم احبوا الارض فمضوا. مضوا رافعي الرأس بصمت ودون وصية، دون كلام. ففي حضرة صاحبة الجلالة الشهادة يفقد الكلام معناه وتتفكك الكلمات إلى جمل لا تعبر حتى عن ذاتها. ما الحاجة للوصية، ما الحاجة للكلام وهم على يقين انهم قد تركوا خلفهم شعباً من البواسل؟
مضت اربع ساعات حينما سكت صوت الرصاص والانفجارات ثم سمعوا صوت محركات طائرة الهلكبتر وهي تبتعد عن المكان.
في فضاء الشمس الحزيرانية يقسم الفلاحون البسطاء الذين لازالوا يزرعون القمح في مرتفعات عين عطا، انه منذ يوم المعركة اصبحت الارض اكثر نتاجاً، واقسموا انهم دائما في العاشر من حزيران في لحظات الاستراحة حينما يسندون اجسادهم الى اشجار الزيتون وحينما يستلقون على الارض مصغيين، تحمل الرياح اليهم صوتاً حنوناً لشاب يتردد صداه بين الجبال هو يغني الدلعونة لحبيبته الاسيرة ويعاهدها على التحرير والعودة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
همام أبو مور
مشرف
مشرف
همام أبو مور


عدد المساهمات : 16064
تاريخ التسجيل : 09/01/2010
العمر : 44
الموقع : قطاع غزة / رفح

قصص من اعمال الياس المدنى  Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصص من اعمال الياس المدنى    قصص من اعمال الياس المدنى  I_icon_minitimeالخميس 28 أكتوبر 2010, 1:13 am

اعترافات لا بد منها:
خلال الساعتين التاليتين للمعركة، احتلت القوات الاسرائيلية كل منطقة عين عطا. انسحب المقاتلون التسعة الذين بقوا احياءا باتجاه مواقع الجيش السوري. في اليوم التالي حيد المبعوث الامريكي فيليب حبيب القوات السورية التي اخلت القاطع الشرقي ورفضت تقديم أي امداد لهم سوى عرضها عليهم بنقلهم الى منطقة ظهر ابو الاحمر حيث عادوا للانضمام للقوات المشتركة لمواصلة القتال.
لابد من الاشارة الى ان الرجل الذي رأوه للحظات في سيارة المرسيدس وامرهم بالتوجه الى الخنادق كان احد قادة القوات المشتركة، هرب من جبهة القتال غير آبه بما جرى. بعد الحرب تمت ترقيته الى رتبة اعلى، فكان احد الحجج التي تذرع بها المعارضون لشق الصف الوطني الفلسطيني.
في معركة عين عطا سقط 41 شهيداً من قوات المقاومة، استشهد 5 افراد من الخندق السوري. كان لك منهم اسمه. حتى هذه اللحظة لم يعرف لماذا اطلق افراد الخندق السوري النار على القوات المشتركة وهو يسمعون اناشيد الثورة. وكيف تسلل الانزال الاسرائيلي على بعد عشرات الامتار عن خندقهم ولم ينتبهوا له ولم يسمعوا صوت الهلكوبتر.
مضى الشهداء، تفرق المقاتلون، وجفرا لازالت تنتظر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قصص من اعمال الياس المدنى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» شهاب يلتقى مع ممثلى منظمات المجتمع المدنى والمجلس القومى لحقوق الإنسان
» مخيم مار الياس يستفيق على «ناس عم تكنس»
» الياس المر: ميشال سليمان جبان ومتآمر
» وفد من اللجنة الشبابية هنأ بتحرير الاسرى في مخيم مار الياس
» أبو عرب ينفي دخول عناصر من "القاعدة" إلى مخيّم مار الياس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتـــــــــــــــــــدى الــنضــــــــــال الـفلســـطـــــــيـني :: منتدى الشعر والقصص والروايات :: خيمة القصص والروايات-
انتقل الى: