محمد القيسي يزور منزل والدته حمدة في مخيم "الجلزون" *

عندما "عاد" "محمد القيسي" في "تصريح زيارة" إلى رام الله، بعد ثلاثين سنة من المنفى، قادته قدماه إلى المنزل الذي التجأت إليه أمه بعد ترحيلها من قريتها. يقع المنزل في مخيم الجلزون للاجئين المتاخم للمدينة من الشمال، لم تكن لديه أي نوايا أو مقاصد أو خطط، كان يريد أن يرى المنزل ليتأكد من طفولته، وليتذكر أمه التي دفنها في منفاها الثاني على تلة يغطيها غبار الفوسفات في الرصيفة في الأردن.
كان بعض الجيران في المخيم قد تقاسموا المنزل خلال ذلك الغياب، تصرفوا في مساحاته، وأضافوا إليه غرفة على السطح ودورة مياه في نهاية الحوش الضيق.
رجل وزوجته وثلاثة أبناء: ولدان وبنت، يقول محمد، تكدسوا أمامي في كومة واحدة وكأنهم ينتظرون حكماً بالموت، أو يتهيؤون لالتقاط صورة عائلية، مثل تلك الصور القديمة بالأبيض والأسود، كانوا خائفين، الرجل الذي بدا صامتاً ومصدوماً بينما زوجته تبدو أكثر تماسكاً، الأولاد كان خوفهم مشوباً بالفضول، وكانوا، جميعاً، يحدقون في الرجل الخمسيني ذي الشعر الطويل الأبيض وحقيبة الكتف السوداء، الذي ظهر، فجأة، على عتبة البيت مثل تهديد غامض وغير مدرك.
لم أتمكن من مواصلة ذلك، يقول محمد هزمتني تلك الكومة تماماً، توقفت بعد العتبة بخطوتين، ولم أتقدم إلى أبعد مما وصلت، كانت غرفة أمي خلفهم، وكانوا يتجمعون أمامها مثل متراس لا يمكن اختراقه، لقد غيروا لون الباب، وأضافوا غرفة على السطح وما يشبه دورة مياه في نهاية الحوش. قلت للرجل وأنا أحاول أن أبتسم لأبدد قلقه:
فقط جئت للزيارة.
بينما كانت المرأة تواصل اعتذاراً مشوشاً وعنيداً:
كان مهجوراً، ولم نكن نظن أنكم ستعودون...، قاطعتُها، يقول محمد، وأنا أفكر بأمي "حمدة البيك" وقبرها الفقير على تلك التلة في "الرصيفة":
معك حق، لم نعد.
عندما استدرتُ وغادرتُ قفز الرجل، الذي بقي طوال الوقت صامتاً، وأغلق الباب خلفي بقوة، كان، الآن، خلف الباب بالضبط، يسند ظهره وزوجته وولديه وابنته للباب، فكرت وأنا أهبط الزاروب محاذراً من الخوض في قناة المجاري المكشوفة أو الاصطدام برؤوس الأولاد والبنات التي تنبع من الأبواب على جانبي القناة أنه لا يزال خائفاً، الرجل الصامت، لقد تسببت في كل هذا، حينما ظهرتُ أمامهم كشبح اعتقدوا أنهم دفنوه، لمجرد أنني أرغب في التذكر، كان ذلك تصرفاً يليق بسائح مرتبك أمام أزواج العيون تلك، تحديداً الولد الأوسط المَلول وعينيه الفضوليتين، وكأنني أنا، أحدق في يدَيْ أمي المشققتين من العمل قبل خمسين عاماً، مَلول وفضولي ومأخوذ بالخارج.