ملامح اشكاليه في العقل السياسي الفلسطيني
يفاجئك أحدهم بسؤال "أنت مع من" و"مِن جماعة مَن" يصنفك كأنما لو كنت في سوق النخاسة، يجزر الدماء في عروقك، فهلا أجبته لم أهب عقلا لكي أؤجره أو ألغيه أو أستغني عنه أو يسلبه أيٌ كان، فتقطع دابر الفضوليين والمأزومين والعبثيين والعارضين لعقولهم في مزادات مختلفة ومتعددة، الذين أَغلقت حجيرات عقولهم من هول تملُّق المتزلفين حولهم، أو من المتزلفين ذاتهم الذين ينكروا على الآخرين تميُّزهم لأنهم ليسوا متزلفين مثلهم، لكي ينحدروا لمكانتهم، هؤلاء الذين تعلموا تحريك الرأس طأطأةً بدل أن يحركوا ما بداخلها!.
مثل هذا السؤال رغم نمطيته واعتياديته في الحالة السياسية الفلسطينية وتسمعه يوميا بصيغ ضمير الغائب أو الحاضر، يبقى مفجعاً، لأنه يعاكس صيرورة الإنسان العاقل ومبرر خلقه، فلا تطابق مطلق لعقلين وإن تشابها منظرا وتوافقا ندرة، والعقل معضلة الاستنساخ العلمي. أستعرض هذا ربما لأني جاهدت نفسي لكي أميزها فابتعدت تاريخياً عن محاولة استئجار العقول وقطعا لم أعرض عقلي للبيع أوالإيجار ولن يكون. وبالنمط أعلاه نقضي على أنفسنا ومشروعنا ونحن نقول فلان محسوب على فلان، وفلان الى علان، وجماعة ابوفلان وجماعة علنتان، ونسينا أننا حسبة الله والوطن والشعب.
وقبل التوغل، لنتفكر قليلا في ماهية تعامل الأديان السماوية مع العقل، إذ يُسقط الله عز وجل الحساب عن الأطفال والمجانين، ويحاسب كل عاقل عن عمله، ولا يُحاسب من جُن (فاقد العقل) عن فترة جنونه، بل يحاسب عن فترة ما قبل الجنون، وهكذا هي أيضاً الآهلية القانونية، فالقانون لا يعتدُّ بشهادة أو أقوال الأفراد القُصّر، إلا بعد تجاوزه لسن الرشد، أياً كان مصدر التشريع، ويسقطها عنه إذا ما جُن وفقد عقله، فأين نحن من هذا!!
إذ أن العقل هبة الله للانسان، يستردها متى شاء، واستناداً لبعض الأراء وديعة، والحقائق العلمية تثبت أنه إذا ماتت خلايا الدماغ مات الإنسان وإنتهى وجوده، وبالتالي على كل منا تقع مسئولية الحفاظ عليه وعدم التفريط به وتأجيره لأيٍ كان لإستخدامه، بل استخدامه لحامله فقط!وفيما وجب.
كيف يمكننا أن نُقلع عن هذه النمطية في التفكير والتفسير والتصنيف، لإضعاف التجاذبات والاستقطاب، وكيف يُمكننا أن نُبقي العقل نشطا متيقظا، ونفتح الآفاق أمامه رحبةً من أجل تنويع التفكير والاجتهاد، إذ أن تأجير العقل يعني الاستغناء عن قدراته وامكانياته، وإبطال مفاعيله ومهامه الأصيلة، وبهذا يصبح لدينا عدد أفراد الشعب ناقص واحد، وإذا ما باتت ظاهرة كما يحلو للبعض توصيفها أو اعتمادها، أي ظاهرة الاستزلام وتجريد عقول الآخرين، ستنشأ لدينا متتالية رياضية تؤدي لأن يكون لدينا نصف شعب لربما أقل أو أكثر، وهذا بالتأكيد يختلف مع الالتزام والانضباط، سواء دينيا لولي الأمر، أوديمقراطيا للمنتخب وفي حالنا (الرئيس)، فالأولى مرفوضة بكل الوجوه والثانية اجباريه بكل الأشكال والنظم السماوية والوضعية.
وبالمقابل؛ ماذا إذا قمنا بتعزيز ثقافة أن لكل منا عقلٌ يهديه الى سواء السبيبل والحق، هذا يؤدي بنا الى محاولة استخدام الطاقة القصوى لامكانياتنا، والتي لا يمكن إلا أن تنتج أضعاف ما يمكن إنتاجه عقل واحد، حتى وإن اختلفت معنا، تحقيقا لمبدأ "لو لم يوجد النقيض لما وجد التطور" إذ أن في الاختلاف ابداع وتنافسية ونشاط وحيوية.
أما إشكالية خطف العقل، وجذب الولاءات، والاستزلام والإتباع، فهي إشكالية ليست جديدة، لكنها تتفشى كظاهرة، وتترسخ لتصبح إشكالية بنيوية خطيرة في المدى الاستراتيجي، وهذا يؤثر على نهضة الشعب بل والأمة ويدمر الأجيال تباعاً، يٌقصي الإبداع في حالة تتجاوز مفاعيلها الفرد، بل تمس الوطن بكل ما فيه. والخطر الفادح لكل هذا أننا ما زلنا في مرحلة تحرر وطني، نحتاج فيه لكل عقل كما حاجتنا لكل زند.
كيف يمكننا تجاوز المعاصر في عملنا السياسي، والمباشرة في تحديث وتجديد منهجنا في هذا السياق، باطلاق العنان للعقل دون تجاوز لواجب الالتزام بالقانون القاضي بالالتزام بالنظم وما منح قانونيا لأولي الأمر، لن نصل دون إعادة الاعتبار للعقل ومكانته.
مفارقات سن ال 40
في السيرة النبوية الشريفة، يتضح أن الرسول الكريم محمد صلى الله وعليه وسلم، الذي كانت نشأته مثيرة كانت دافعة للطمأنينة، على أني أسوق مفارقة غريبة ذات دلالات عميقة، أن الرسول علية السلام قد تزوج خديجة بنت خويلد بينما كان في عامه الخامس والعشرون، وهي في الأربعين من عمرها، وقد كانت سيدة عزيزة في قريش، فرعته وعزّزت مكانته بما وُصفت من رجاحة عقلها، في حين بعثه الله عز وجل نبيا وهو في الأربعين من عمره، إيذانا بتمكينه نبيا وقائدا لأمة بكاملها، لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، لنتوقف هنا عند العقد الرابع، وبدراسة تأريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، كان لقيادتها الشابه إرادة واستقلالية مكنتهم من اعلان انطلاق حركة فتح، وهم في العقد الثالث، وتسيّدهم المشهد والحكم وقيادة منظمة التحرير وابوعمار على مشارف عامه الأربعين، كيف استوى هذا الحال واستقام؟! في حين لم يستقم أن يكون من تجاوز الأربعين قادرا مقتدرا..راشدا مرشدا..حاكما مُحكِّما..لا قاصرا..حالما. أم أنه قد توارت القدرات الفردية وانحطت مقاديرها واختلت موازينها، ويقال في مثل هذا الحال كسر القالب من بعد صنعه "خلقه"!؟ أو أن العقل الناقص من يرتكن على نقص في عقل مقابله، والضعيف من استهوى واستسهل قيادة الضعفاء.
هي إذن ثقافة الاستزلام التي يجب أن نجتثها من جذورها.. وإحراق كل بذورها المخزية المُخّزنة في كل الصوامع. إن الفرق بين محاولة استقطاب الآخرين لفكرة محددة كطريقة مباحة وشرعية تعتمد على العقل، وبين تجنيد المستزلمين واقصاء دور العقل، كالفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، الأولى قانونية والثانية باطله، ويجب أن تُعرّف شعبياً بلا أخلاقية الوسيلة أو الغاية، بل وأن تُجرّم إجتماعياً، ذلك أن الاستحواذ على عقل الآخرين يعني بداية الطريق لهزيمة الوطن وقضاياه.
الآهلية القيادية
دون الغوص في شروط الآهلية القيادية قانونياً..نُعرّج بعجالةٍ على الدرس الأول في مقومات الآهلية القيادية، فالمترشح لموقع قيادي يجب أن يعلم أن العلاقة بينه وبين مُنتَخِبِه هي علاقة تعاقدية بالمفهوم القانوني، وأن الإنتخاب الذي يشكل نخبة المجتمع أو النظام، يعني تفويض حر لارادة المنتَخِب للمنتَخَب، ينيبه عنه ويُمثّله في الهيئة المقصودة، ومن لا يعرف هذا أو ليس أمينا عليه، يكون قد أخلَّ بشرط التعاقد ذاته وعلينا أن نكون أوفياء مخلصين لإرادة الناخب الذي لولاه ما رُسّمت معالم خارطة النخبة السياسية بشرعيتها القانونية الديمقراطية.
وفي جوهر وصلب مهام القيادة "الحكم"، و"الحكم" لا يتم إلا بالمعرفة وحصرا معرفة الحقيقة لأنها ضالته، ولا حكمٌ صائب أو صالح أو رشيد.. بجهالة، وهنا نستعيد الحاجة للعقل الذي يجب أن يبقى حراً منطلقاً وبلا قيود، مستقل وغير مُستلب ولا مُستباح، ولا سلطة لأحد على آخر إلا بحيثيات التعاقد الشرطي وفق نصوص اللوائح والقوانين الناظمة، والولاية تكون للمسئول المباشر عملا وظيفياً، والمسئول الأول رئيسا كان أم ولي أمر عملا قيادياً، وما دون ذلك، الكل سواء إلا "بالتقوى والكلمة الطيبة أوبما تجود به رضاً وعن طيب خاطر".
عموما نحن في مرحلة متهاوية في الوعي النخبوي في العمل السياسي والفصائلي، وقد إنتقلنا من عهد المدارس والتيارات الفكرية كالإسلامية والشيوعية والقومية والبعثية والوطنية، وأكثر تدقيقا وتخصيصا، كأن يُفصّل، إسلاميٌّ متشدد أو وسطيٌّ أو إسلاميٌّ ليبرالي، وشيوعيٌّ ماركسي أو ماويّ، إنتقلنا الى عهد الزبائنية والولاءات الفردية والجماعات الشخصية، "جماعة فلان القائمة على الاستزلام بدلا من تيار فكري قائم على ادراك عقلي وبحث علمي"، هل هو زمن ننتقل فيه من الثلل الى الزمر.
هذا الانهيار الذي أنتج فقرا وشحا في الابداعات العقلية والذهنية والمعرفية، تُنذر بتحولات إجتماعية وسياسية عميقة في النخبة السياسية تؤكد حاجتنا الى مرحلة "التنمية السياسية الشمولية" (ربما هذا يستحق التفكير الجدي بانشاء وزارة للتنمية السياسية أوهيئة لذلك)، في مقدمتها تربية ديمقراطية، ووعي ديمقراطي، تحترم الآخر وتقدر مكانته ولا سيادة فيها لعقل على آخر الا بالحجة المبرهنة للحقيقة الدامغة والمعرفة.
هل العقل السياسي الفلسطيني مريض بلغته ونمطيته واستسلامه؟ هل تم ترسيم منهج الولاء الأعمى؟ والتبعية الشخصية؟ وترسيخ مبدأ جماعة أبوفلان! وجماعة ابو علان!. نحن لسنا من هؤلاء ، بل من هؤلاء، لسنا من جماعة أحد، بل من جماعة الوطن فلسطين، جماعة فتح وقيادتها الشرعية المنتخبة ديمقراطيا، والمتمثلة في رئيسها ولجنتها المركزية إطاراً ومجلسها الثوري وأطرها القيادية الرسمية، نحن من جماعة نظامها الأساسي والداخلي، من جماعة فكرها السياسي، نحن من جماعة الجماعة على ما توافقوا اجماعا أو إتفقوا إنتخابا في الأطر، مع الاشارة الى أن فتح كانت إبداعية خلاقة حين إنطلقت أبقت لكلٍ حقه في خصوصيته الأيدولوجية، لكنها وحدتهم في سلوكٍ ثوريٍ غايته فلسطين.
وحيث أنني من جمعِ الأغلبية العظمى الذين يحملون الوديعة (العقل) وملتزمون باستخدامها حتى ترد لبارئها، وملتزمون بالعقد الديمقراطي مع من فوضونا ارادتهم، نختم إيماناً واحتكاماً بقول الشافعي رحمه الله:
صُن النفس واحملها على ما يزينها
تعش سالماً والقول فيك جميلُ
ولا ترينّ الناس إلا تجمُّلا
نَبا بك دهرٌ أو جفاك خليلُ
وإِن ضاق رزق اليوم فاصبر إِلى غدٍ
عسى نكبات الدهر عنك تزول
يعزُ غنيُّ النفس إن قلَّ ماله
ويغنى غنيُّ المال وهو ذليلُ
ولا خير في وِدِّ امرئ متلَّون
إِذا الريح مالَت مال حيث تميلُ
جوادٌ إذا استغنيت عن أَخذ ماله
وعند احتمال الفقر عنك بخيلُ
فما أكثر الإِخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليلُ
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]