الجراح: زلمة خدام شيخ المراجل

يحق للنائب جمال الجراح، من الآن وصاعداً، المزايدة على زملائه في تيار المستقبل. فهو ــ وفق دمشق ــ محرك الثورة الشعبية على النظام، وبالتالي فإنه الوحيد الذي يحق له الادعاء أنه يقاوم الوصاية السورية في عقر دارها

لم يكن نائب البقاع الغربي وراشيا جمال الجراح يوماً متأثراً بـ«تشي غيفارا». ولم يكن ذاك الشخص الثائر الذي سيغير وجه التاريخ، ويصنع معجزات «ثورية». وهو بالتأكيد ليس معروفاً عنه في سهل البقاع الجنوبي أنه ملهم الفقراء والبؤساء ولا المطالبين بحريتهم وانعتاقهم من جور. فمقتنص «الفرص» لا يمكن، وفق أصدقاء سابقين له، أن يُعَدّ قدوة للعمال الزراعيين في قريته المرج (البقاع الغربي) المشهور عن أهلها الفقراء عشقهم للزراعة والفلاحة. فالرجل، الذي عرف بباعه الطويل في العمل المصرفي وتبادل العملات على أرض سهل البقاع مع مختلف القوى السياسية، اللبنانية والفلسطينية والسورية والليبية، أصبح بقدرة «سيادة» نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام نائباً في البرلمان اللبناني، بعد أن «نُظف» ملفه الأمني ـــــ السياسي من مجموعة مستشارين سابقين وحاليين للرئيس سعد الحريري، تولوا إقناع السفارة الأميركية في بيروت ببراءته، بعدما كانت الاستخبارات الأميركية تتخذ موقفاً من نيابته ربطاً بكونه شقيق والد زياد الجراح أحد أفراد مجموعة «القاعدة» التي قادت «غزوة نيويورك».
موافقة الاستخبارات الأميركية على «نظافة ملف» جمال الجراح، وأن لا علاقة له بتنظيم القاعدة، أسهمت في إقناع الرئيس سعد الحريري بتبني ترشيحه في آخر ربع ساعة في انتخابات عام 2005، بعدما كان الاتجاه نحو ترشيح النائب الحالي زياد القادري الذي أُبعد، بعدما أدى عبد الحليم خدام دوراً أساسياً وكبيراً في دعم ترشحه، لأسباب متعددة، أبرزها توفير الحصانة النيابية له. فهو الذي يقال عنه إنه «الأمين على أموال وعقارات» عائلة خدام في لبنان، وعلى سياراتهم «الفارهة» التي هُربت من دمشق وبانياس عبر معبري المصنع والقاع الحدوديين بعد مغادرة نائب الرئيس السوري السابق دمشق إلى باريس.
ويقول مطلعون على ملف العلاقة بين الجراح وخدام إن الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان يبدي انزعاجاً من«حميمية» العلاقة، لكنه كان يجد فيها ما يسهم في إبقاء «خيط» مالي أحسن الراحل الحريري في إبقائه ممدوداً مع خدام الأب ونجله جمال عبر الجراح الذي سرعان ما تدهورت علاقته بالرئيس الشهيد إثر فعل أمني أقدم عليه سنة 2004 في بلدته المرج، مدعياً أن مجهولين حاولوا اغتياله لمجرد أنه من مناصري الحريري في البقاع، موحياً أن الاستخبارات السورية كانت تقف وراء محاولة اغتياله، الأمر الذي أزعج الحريري الأب، الذي كان يومذاك في رحلة صيد في سويسرا.
ويروي مطلعون أن الحريري كلف يحيى العرب (أبو طارق) التحقيق في ادعاء الجراح، حيث تبين للعرب يومذاك أن «في القصة قطبة مخفية، وربما كانت أسبابها نسائية، وليست سياسية». هذه الخلاصة رفعت من توتر الحريري الذي رفض لاحقاً الرد على اتصال الجراح به خلال وجوده في سويسرا.
هذا «الفعل» الأمني للجراح، ألحق بتوقيفه في مخفر المصنع الحدودي، ثم تحويله إلى نظارة قصر عدل زحلة. وهنا، نجحت الاتصالات مع قائد منطقة البقاع في قوى الأمن الداخلي يومذاك اللواء علي الحاج للتوسط للجراح عند رئيس جهاز الاستخبارات السورية في عنجر رستم غزالي الذي أوعز إلى من يعنيه الأمر أمنيا وقضائياً بإطلاق سراح الجراح، حيث طلب الرئيس الحريري من إدارة «بنك المتوسط» إعفاءه من مهماته في البقاع ونقله إلى الإدارة المركزية للمصرف في بيروت تمهيداً لإبعاده.
كان الجراح في شبابه «السياسي» ناشطاً في جهاز أمن الـ17 التابع لحركة فتح في لبنان. وعمل مع العقيد «أبو الوليد» الذي كان يتخذ من بلدة بر الياس مقراً لعمله الأمني قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ببضعة أشهر. وإثر الدخول السوري هرب الجراح من البقاع بواسطة سيارة مسؤول بعثي سوري عبر طريق كفريا ـــــ جبل الباروك، ومن هناك إلى الأردن حيث عمل مسوقاً في شركة مختصة ببيع الأدوات الكهربائية، قبل أن تنهي الوساطات السياسية والأمنية ملفه الأمني مع السوريين ويسمح له بالعودة إلى البقاع بعد تولي الرائد غازي كنعان جهاز الأمن والاستطلاع في الجيش السوري «شرط التنسيق» مع جهازه الأمني السوري.
وبعدما وطد الجراح علاقته بكنعان، وأصبح من المخلصين له، دبرت له وظيفة في مصرف تجاري بوساطة من الوزير الأسبق عبد الرحيم مراد الذي عاد ودعمه عند الرئيس فؤاد السنيورة الذي أُعجب بالجراح ووظفه لاحقاً في بنك البحر المتوسط أوائل التسعينيات في شتورة، حيث سهل له شقيقه العميد (المتقاعد) ناظم الجراح الذي كان مسؤولاً عن نقطة أمن المصنع، تحركه نحو الداخل السوري لتوظيف أموال سورية في «المتوسط» بعد تهريبها من سوريا، ومنها أموال مسؤولين سوريين كانوا يتقاضون «رشى» من رجال مال وأعمال لبنانيين؛ إذ أحسن الجراح توظيف أموالهم ونسج علاقات أوصلته لاحقاً إلى البرلمان في دورتي 2005 و2009.
برز النائب الجراح كأحد صقور «المستقبل» الرافض بقوة للوصاية السورية والإيرانية (في المناسبة، الجراح متزوج إيرانية)، وقد أحسن إدارة مشروعيه السياسي والمالي الخاصين؛ إذ هو من أكثر نواب «المستقبل» البقاعيين حراكاً ونشاطاً إعلامياً وسياسياً، وله شبكة علاقات منظمة ومنتظمة مع موظفين في السفارة الأميركية في بيروت. ويعرف النائب الجراح المعتد بشخصيته، الذي يوصف شعبياً بـ«المغرور» تمام المعرفة مكامن القوة والضعف في تيار «المستقبل»، محسناً استغلالها نحو تطوير مشروعه السياسي الخاص، ما رفع من نقمة الرئيس سعد الحريري عليه بعد تلقيه شكاوى من بقاعيين تتهم النائب الجراح بأنه «فاتح على حسابه»، ما اضطره إلى إبعاده لفترة من الوقت عن بيت الوسط في وادي أبو جميل.
لكن سرعان ما نجح الرئيس فؤاد السنيورة وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع في ترطيب العلاقة بين الحريري والنائب المشاكس، الضارب عرض الحائط بمصلحة التيار. فالنائب البقاعي متهم بأنه ممثل القوات في كتلة المستقبل، وهو لم يجد حرجاً في نفي الاتهام السوري له بأنه يدير خلية إرهابية في سوريا لزعزعة أمنها الاجتماعي والسياسي هناك. ويقول مقربون منه إن هذا الاتهام «سيعطي الأستاذ دفعاً قوياً في الشارع البقاعي، وإن أسهمه سترتفع شعبياً وسياسياً، وسيكون محط الاهتمام الإعلامي، وسيوفر له الرئيس الحريري كل الحماية الأمنية والسياسية».
جاء الاتهام السوري ليرفع من جرعات البروز الإعلامي الذي يحبه الجراح ويتقن فنونه. وقال موالون لسوريا إن الاتهام حوّل النائب إلى مرجع بقاعي، ويرى بعضهم أن اتهام الجراح «خطأ أمني سوري سيرتد علينا سلباً». ويتابع أحد القادة السابقين في فريق 8 آذار البقاعي قائلاً: «للأسف، سيتحول جمال الجراح في نظر الشارع المستقبلي في البقاع ولبنان عموماً إلى بطل يصنع ثورات ويهز عروش أنظمة، وهذا ليس في مصلحتنا السياسية». ويؤكد أن الجراح «أعجز من أن ينظم شخصين في جهاز أمني أو حزب سياسي، وبالتالي الهدف هو تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري، والجراح هو الحلقة الأضعف للوصول إلى الهدف المنشود لعلاقته الوطيدة مع خدام وارتباطاته الأمنية مع الاستخبارات السورية سابقاً، والأميركية لاحقاً».
الاتهام السوري يفرح الجراح ضمنياً، وفق أصدقاء اتصلوا به أمس للوقوف على آخر تفاصيل الاتهام. يقول أحدهم لـ«الأخبار» ممازحاً: «بعد فينا نهدي جمال؟ من دون شي كان شيخ المراجل، فكيف بدك ياه يكون بعد هذا الاتهام السوري؟!».