هل توصلت واشنطن إلى اتفاق مع «الإخوان» في المنطقة العربية؟

إن الانتصار الذي حققته ثورتا تونس ومصر، وانطلاق الثورة في اليمن والبحرين، باغتا العالم واظهرا ارتباكا فاضحا للإدارة الأميركية حيال ما يحصل في العالم العربي. ولم تستعد واشنطن وعيها إلا بعد التطورات الدراماتيكية التي طرأت على الثورة في ليبيا، والتي أعطتها الوقت الكافي لمحاولة إعادة رسم سياستها في الشرق الأوسط.
ففي مصر، حيث انطلقت الثورة بشباب متحمس غير منظم، فان جماعة الإخوان المسلمين، القوة الوحيدة المنظمة تنظيما جيداً في الشارع المصري المعارض، وقفت في البداية موقف المتردد وبدأت تلتحق بشباب الثورة بحذر، ولم تتورع عن المساومة مع نظام الرئيس السابق حسني مبارك في احدى مراحل الثورة إلى أن تطور موقف هذه الجماعة إلى تشكيل القوة المنظمة الأساسية في مواجهة بلطجية مبارك في «موقعة الجمال» في ميدان التحرير. ولا يخفى على احد الدور الذي أدته قطر في الدعم اللوجستي لثوار ميدان التحرير كما الدعم الإعلامي الذي قامت به قناة «الجزيرة» القطرية.
واستمر الموقف القطري الداعم للثورات حتى في البحرين، إلى أن دخلت قوات «درع الجزيرة» المنامة عبر الجسر البري الذي يربطها بالسعودية، وأقفلت الجسر خلفها لتبدأ أوسع حملة تنكيل بالثوار المدنيين العزل هناك. عندها غابت «الجزيرة» تماماً عن المشهد على الرغم مما حصل وما زال يحصل من تنكيل غير مسبوق ومن تدمير للمساجد والحسينيات وإحراق للمصاحف، وقد تجاوز عدد المفقودين حتى الآن 300 شخص، من دون أن يستحق كل ذلك ولو سطراً صغيراً في شريط الأخبار الذي يحتل أسفل الشاشة على القناة القطرية.
ومع انسحاب «الجزيرة» من المشهد البحريني وزيارة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني واشنطن، واجتماعه مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، تسلطت أضواء هذه الفضائية على سوريا بلغة لم تعد تميزها قيد أنملة عن زميلتها «العربية» الفضائية السعودية، وبطريقة تجاوزت معها كل المقاييس المهنية الإعلامية، إذ أخذت تؤدي دوراً تحريضياً مكشوفاً ضد النظام في سوريا، وصل إلى درجة افتعال أحداث لم تحصل، أو إجراء مقابلات هاتفية مع «شهود عيان» في مدينة درعا يقولون إن السلطات السورية قطعت الكهرباء والماء وكل خطوط الاتصالات الهاتفية الأرضية والخلوية من دون أن تكلف المذيعة نفسها عناء سؤال هؤلاء الشهود كيف يتواصلون معها إذا كانت الخطوط الهاتفية مقطوعة.
وأصرت «الجزيرة» في كل نشرات أخبارها على القول إن المواجهات هي بين متظاهرين وقوات الأمن، فيما لم تشر أيضا في أي من هذه النشرات إلى سقوط جنود وضباط سوريين في المواجهات المسلحة التي تحصل. وقد أدى هذا الأداء الإعلامي إلى استقالة مدير مكتب «الجزيرة» في لبنان غسان بن جدو.
إن الانقلاب الجذري في الإعلام القطري ما هو إلا انعكاس للانقلاب الجذري للموقف القطري من مجمل الأحداث التي تحصل على الساحات العربية، وهو ترافق مع انقلاب اقل حدة في الموقف الدبلوماسي لتركيا حيال الوضع في سوريا، لكنه أكثر تشدداً في الممارسة، إذ باتت اسطنبول مركزاً لانعقاد اجتماعات ومؤتمرات للحركات الإسلامية المعارضة للنظام السوري. وتصاعد الموقف في مواجهة سوريا على المستوى الدولي، فيما تحركت العواصم الغربية، وخاصة الأوروبية، لتدلي بدلوها في ما يحصل في سوريا وتهدد وتتوعد النظام هناك، من دون أن يرف لها جفن عما يحصل في اليمن والبحرين، وهي تمارس أقصى أشكال الابتزاز المسلح ضد ثوار ليبيا.
تملك جماعة الإخوان المسلمين دورا كبيرا في قناة «الجزيرة»، ولا سيما الأب الروحي للجماعة الشيخ يوسف القرضاوي، الذي له موقع خاص وأساسي في الديوان الأميري القطري، وهو سارع لقطف ثمار ثورة مصر باكرا عندما امّ المتظاهرين في ميدان التحرير في أول صلاة جمعة بعد انتصار الثورة.
ومن انقلاب أداء «الجزيرة» وبقية وسائل الإعلام الخاضعة للنفوذ القطري، إلى لقاء أمير قطر مع أوباما في واشنطن، إلى الموقف التركي المستجد، فان كل ذلك يتطلب البحث عن القاسم المشترك، وهذا الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التمحيص والتدقيق، فرجب طيب اردوغان إضافة إلى موقعه الرسمي كرئيس الحكومة التركية، يرأس حزب «العدالة والتنمية»، الإسلامي الجذور والتوجه، والذي يوصف بأنه من معسكر الاعتدال في الحركة العالمية لـ«الإخوان»، وبلاده لا تزال تستضيف قاعدة عسكرية أميركية ضخمة في مدينة «انجيرليك»، تماماً كما تستضيف قطر اكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط في بلدة «السيلية» القريبة من الدوحة. إذاً، فان هذين العاملين يشكلان قاسما مشتركا بين موقفي البلدين، فكلاهما له علاقة جيدة مع واشنطن وله «مونة» كبيرة على «الإخوان». فهل توصل هذان الجانبان إلى إجراء رعاية لاتفاق ما بين الإدارة الأميركية وجماعة الإخوان المسلمين؟
إن العقل البراغماتي الأميركي لا يتورع عن ذلك، فحركة اردوغان المعتدلة نجحت في امتحان «الديموقراطية» في تركيا، ودولة قطر تملك اليد الطولى في دعم الحركات الإسلامية في المنطقة، وجماعة الإخوان المسلمين هي القوة الحزبية الأكثر تنظيماً وشعبية على امتداد الساحة العربية من المحيط إلى الخليج، ومن شأن الاتفاق معها، إن قبلت دخول نعيم السلطة وعدم إغلاق الباب وراءها، أن يؤمن لواشنطن حالة من الاستقرار تبني عليها من اجل مواجهة «الإرهاب» الذي تحمله حركات إسلامية متطرفة في المنطقة، وتراعي مصالحها بضمانة تركية - قطرية. فأين هي المشكلة في الموضوع؟ إنها سوريا.
وفي الحديث عن سوريا لا يعني ذلك أن ما نشهده هناك كله نتاج مؤامرة خارجية، كما يحاول إعلام النظام السوري تصوير الأمر، فلا شك في أن الشكل القائم للنظام قد عفا عليه الزمن وبات يتطلب عملية تغيير جذرية، وليس مجرد «رتوش» إصلاحية، لكن دخول المجموعات المسلحة، التي تدعمها أجهزة استخبارات متعددة الجنسيات، أخطرها السعودية والأردنية، على خط الحراك الشعبي، قطع الطريق على نمو حركة ديموقراطية علمانية سلمية مشروعة في سوريا، وعلى حركة الإصلاح التي سارع الرئيس السوري بشار الأسد إلى إطلاقها لملاقاة الحراك السلمي، وبدأت بقرارات كبيرة من ضمنها تغيير الحكومة وإلغاء حالة الطوارئ المستمرة في البلاد منذ قرابة خمسة عقود.
من هنا، إن صحت نظرية الاتفاق الأميركي مع جماعة الإخوان المسلمين، فان المشهد السوري سيكون أكثر دموية على المدى القريب، وسيحرق لهيبه، ليس سوريا فحسب، بل أيضا لبنان والأردن والعراق، فواشنطن ستستخدم المجموعات المسلحة لابتزاز النظام من اجل تسليم كل أوراق القوة لديه (العلاقة مع إيران وحماس و«حزب الله»). وان تمكنت هذه المجموعات من إنشاء موطئ قدم لتدخل دولي كما حصل في ليبيا، فان إطاحة النظام السوري تصبح خيارا مطروحا وتكون جماعة الإخوان المسلمين هي البديل، وفي ذلك تأكيد لما نقلته تقارير «ويكيليكس» عن رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان سعد الحريري، بما له من امتدادات في السعودية وفي تحالفه مع الجماعات الإسلامية في لبنان.
إن تجربة أميركا في الاتفاق مع الحركات الإسلامية الأصولية ليست جديدة، فهي حصلت أكثر من مرة، وكان آخرها في أفغانستان أيام المواجهة مع السوفيات، حيث عاشت العلاقات الأميركية مع التنظيمات الأصولية والسلفية شهر عسل طال قرابة عشر سنوات، لكن واشنطن سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مشروع إسلامي عالمي متطرف يقوده أسامة بن لادن والملا عمر وأيمن الظواهري، ويستخدم العنف بكل أشكاله لتحقيق أهدافه، لذا فان النتاج الطبيعي والمنطقي لجماعة «الإخوان» ليس النموذج الاردوغاني ولا القطري، كما يمكن أن يتصور بعض من في الإدارة الأميركية، بل إن ما سيواجه واشنطن بطبيعة الحال هو نموذج حكم الملا عمر في أفغانستان، وما عمليات التنكيل بجثث الجنود السوريين إلا مجرد فاتحة لذلك.