الفتى في الصورة، الذي يحمل العلم الممزق لا يبدو فدائياً. هو مراهق خائف يغمض عينيه كأنما بذلك يمكنه اتقاء الرصاص، وهو يرفع علم فلسطين الممزق ويشهر باليد الأخرى إشارة النصر التي لا يدري الفلسطيني ما اذا كان قد تعلمها في طفولته، أم أنها، هكذا، ولدت معه في بلاد لجوئه، أو في بلده المحتل.
في الصورة التالية، نراه يهوي بين مجموعة من الشبان المطروحين أكثر وقد تبللت ذراعاه بعدما أصيب في كتفه. الشاب الاعزل واجه موته وهو، تقنياً، على بعد أمتار ليس من أرضه فقط، بل من عدوّه. ظهر الأحد الدامي في مارون الراس لم يعد نفسه. للمرة الأولى في حياته، يخرج من مخيلته إلى الواقع مكونان أساسيان له: فلسطين والجندي الإسرائيلي عليها.
رآهما. الأرض باتت في عينيه أغلى وأحلى، والجندي بات عدواً ممعناً في القتل أكثر، غير أنه بات مكشوفاً بالنسبة إليه. وهو ورفاقه مستعدون لأن يعيدوا الكرّة، ما دام هذا العدو هو السبب الاول والاخير لشقائهم الممتد في بلد اللجوء، وما داموا قد وصلوا أخيراً إلى السياج.
هؤلاء لم يسقط منهم عشرة شهداء وعشرات الجرحى لأنهم يحملون رسالة من النظام السوري إلى اسرائيل والولايات المتحدة بأن في يد الرئيس بشار الأسد مفاتيح إقفال صناديق جهنم التي من الممكن فتحها على إسرائيل. هؤلاء الذين نزلوا الهضبة الخضراء في مارون الراس، هم للأسف الذي لا ينفع، ضحايا ظلم كثير ومتشعب.
قادتهم الى الحدود، ليست أوامر قصور رئاسية، بل حماسة تحكم الشعور العربي الآني: الناس قادرة على التغيير. يتحدث الاستاذ في الجامعة الاميركية في بيروت الدكتور ساري حنفي عن «النموذج الجديد للتعبئة الذي أطلقته الثورات العربية والذي يقول بأن للمتظاهرين العزل قدرة أقوى من السلاح. هذا النموذج، حين أتيح للفلسطيني تجربته، أقبل عليه بشجاعة مذهلة». كما يشير حنفي بالطبع إلى «الحشد الفلسطيني الكبير غير المتوقع، حتى لحزب الله وللجيش اللبناني ربما. حشد لم يكن ليصل إلى الخمسين الفاً، لولا الثورات العربية».
إسرائيل، في المقابل، أكدت، كما عادتها، وحشية كاملة مع انها لم تكن مضطرة إلى هذا الافراط في العنف مع عزّل. هذه وحشية ممنهجة وسترتد عليها. «هي تواجه خطر المقاومة غير العنفية، وهي مقاومة مقبولة عالمياً». يوم الاحد الفائت، شارك خمسون ألفاً. ماذا لو شارك في المرة المقبلة نصف مليون متظاهر؟ وماذا لو أنهم، كلهم، مشوا إلى السلك الشائك؟»، يسأل حنفي ويجيب: «الرسالة القاسية التي وجهها «حزب الله» إلى إسرائيل هي أن أجساد العزل يمكنها أن تكون شريكة في المقاومة».
ياسر عزام، عضو اللجنة التحضيرية في مسيرة العودة، شديد الحماسة للإجابة عن أسئلة المسيرة، وإن كان يحزن للدم المبذول، وهو كان كثيراً. يقول إن «الخامس عشر من ايار أثبت أن بالامكان تحريك الحدود السياسية التي لن تصد لاجئين فتحوا معركة شعبية مع عدوّهم». يحكي عزام عن «النقلة النوعية في حياة اللاجئين. هذا اليوم أعاد الايمان بإمكان العودة بقرار الشعب نفسه، وأكد للمفاوضين باسمه ان اللاجئين ليسوا الطعام الباقي على طاولة المفاوضات، وان لا أحد يستطيع البيع والشراء بحق عودتهم، فالذين استشهدوا عند السياج كانوا راجعين إلى قراهم في الجليل، وليس إلى حدود 1967. وسقوطهم هناك في تلك النقطة المتقدمة بعد أكثر من ستين سنة على النكبة، يعيدهم إلى مشهدهم الاول: مشردون قسراً، وعلى العالم أن ينظر بوضعهم. لقد عادوا أقوياء». يذهب عزام في فكرته إلى نهايتها: «ماذا لو رفعنا القرار الدولي 194 الذي يقرّ بحقنا بالعودة، ومشينا إلى الحدود وشهرنا قرارنا، لنكمل عودتنا، فإذا مُنعنا، نصبنا خيامنا هناك، لصق السياج الشائك هذه المرّة؟».
يتفاءل عزّام. هذه الحدود كانت عزيزة لبنانياً، وكان وصول الفلسطينيين إليها لا يحصل إلا بتظاهرات محسوبة ومدروسة تماماً، حيث إذا سمح الجيش بالهتاف، فلن يسمح برمي حصاة إلى الجانب الآخر. فإذا انفجرت في الموقعين معاً، حضرت الاهداف السورية.
عند طرفي نقيض، اصطف الموقفان اللبنانيان إزاء المشهد نفسه: الاول لم تعنه للحظة عند حرمة القتل. ذهب مباشرة إلى اتهام سوريا وحزب الله بمحاولة إبعاد بقعة الضوء عن الحدث السوري، كما توجيه الرسالة التي باتت معلومة إلى اسرائيل. أما الثاني، فعاد إلى أرشيفه من العبارات الجوفاء التي إن أدت إلى نتيجة فهي تأكيد المزعم الأول.
هناك نقاش ثالث خارج هذين النقاشين: الطريق إلى الشريط الشائك، في لبنان كما في الجولان، كانت معبدة لوصول الناس إلى وجهتهم. هذا كان جلياً. «حزب الله» لم يدفع الناس لينزلوا إلى سفح تلك الهضبة، غير انه على الاقل لم يُعق هذا النزول المطلوب. الجيش اللبناني لم يكن حازماً في البداية، وحين حزم أمره فرّق المتظاهرين. في الجولان، عبور الفراشات إلى الجانب الآخر من الارض السورية المحتلة دونه موافقة النظام.
15 أيّار كان يوماً حزيناً، غير أنه، سيعيد التذكيــر بالمفــارقة التي ستظل مدهشة مهــما تكررت: كلمــا وقف فتى فلسطيني أعزل في وجه جندي اسرائيلي مدجج، سيتحدى الفتى الجندي ولو بشارة النصر وحدها، وسيطلق الجندي النار على الفتى. كأن الصراع الآن بدأ.