فلسطين نحو أوسلو ثانية

تذهب قيادة الشعب الفلسطيني إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتطلب الاعتراف بالعضوية الكاملة والدائمة لدولة فلسطين على حدود 1967 سنداً للقرارين 242 و338. تعترف بحقوق شعب فلسطين أكثرية دول العالم وأكثرية شعوبه. أميركا تهدد بحق النقض في مجلس الأمن الدولي. «الأقلية الساحقة» تظهر لا شرعية هذه المنظمة الدولية التي ظلت إلى عام 1974 لا تعترف بالصين الشعبية. هذا النظام الدولي الذي نشأ على نتائج الحرب العالمية الثانية آن له أن يتغيّر. وقائع جديدة تفرض نفسها من خارج هذا الإطار.
ألمانيا الجديدة، أوروبا الموحدة، اليابان، الهند، البرازيل، مجموعة الخليج العربي، كتل ضغط اقتصادية وبشرية لا يعبّر عنها النظام الرسمي الدولي. المجتمع الدولي يعاني من سيطرة التحالف الأميركي الأوروبي الغربي على حساب معظم الشعوب ومعظم الدول.
في العام 1974 وقف زعيم الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة ليعرض تسوية تاريخية وليسأل العالم أن يختار بين «غصن الزيتون وبين البندقية الفلسطينية»، وحصلت فلسطين على صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة. لكن إسرائيل أسقطت غصن الزيتون. لم تقف المنظمة الدولية عند قرارها 181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين. لم يستجب العالم لإعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988، ولم يدعم تنفيذ اتفاقية أوسلو (1993) ولا المبادرة العربية (2002). الشرعية الدولية لا تحمي حقوق شعب فلسطين لا في القانون ولا في الواقع.
إذا كانت هذه النتيجة مؤكدة فما هو خيار القيادة الفلسطينية؟ لا الواقع العربي ولا الواقع الدولي يسمحان بخيار مختلف. المقاومة المسلحة استنفدت وسائلها ولم تعد تراكم إنجازات سياسية. غزة المحاصرة لا تستطيع إلا أن تمارس حق الدفاع كأي جبهة عربية أخرى. الشارع العربي الذي يستعيد دوره السياسي في دعم قضية فلسطين لا زال خارج القرار الفاعل. دول العالم التي ساندت القضية الفلسطينية لا تدعم إلا خيار التفاوض.
الفلسطينيون اليوم يواجهون وحدهم تبعات المشروع الصهيوني إقليمياً ودولياً وهم في وضع «اليائس» كما عبّر أحد مسؤوليهم. يذهب الفلسطينيون إلى المجتمع الدولي ويتنازلون عن بعض حقوقهم لينقذوا حقوقاً أقل أو ليوقفوا الزحف الصهيوني على ما بقي لهم من وجود مادي. هذه هي المعادلة الراهنة. حتى هذا الهدف تزداد مخاطر فشله أمام ميزان القوى الذي يعطي حكومة إسرائيل فرصة التشدد والبحث عن صيغ للحلول السياسية عملياً هي تصفية للقضية الفلسطينية أو تأسيس لخيار الوطن البديل. إذا كانت الصورة على هذا النحو من «المأزق» فاللجوء إلى الأمم المتحدة للتأكيد على الشخصية الوطنية الفلسطينية ولحماية المصالح الفلسطينية في الضفة والقطاع قانونياً مسألة مفيدة.
وافقت سوريا وإيران على الخيار الفلسطيني ولم يعد من مكان لشعارات أو «صواريخ إيديولوجية». وحدها الثورات العربية قادرة على تصحيح المسار بعد اكتمال التحولات السياسية التي تشرق من مصر ومن حركة شباب مصر حيث الصورة الفعلية لوجدان الشباب العربي، وحيث تكون الحرية مدخلاً لتجديد المشروع العربي الوطني أو القومي.
ما يعبّر عنه الشباب العربي في مناخ الحرية لا يفعله أي نظام، ولا يجرؤ أن يصرّح عن خياره لمواجهة إسرائيل. خلال عقود استبيحت الحرية والكرامة وهدرت العدالة الاجتماعية وتشوّهت اقتصاديات العرب واستغلت التنمية لتراكم الثروة واحتكارها، كل ذلك باسم فلسطين والأمن في مواجهة إسرائيل. حين نسأل اليوم عن فلسطين وعن هذا المسار التراجعي وعن تآكل الحقوق الفلسطينية فضلاً عن إنكار الحقوق العربية الأخرى، علينا أن نخرج من الخيارات العربية السابقة ونطوي هذه الصفحة بكل ملابساتها.
لم يفشل الشعب الفلسطيني لأنه اختار الدولة الديموقراطية أو حلّ الدولتين أو التفاوض أو الكفــاح المسلح أو الانتفاضة السلمية، ولا حتى لأنه اختار اتفاقية أوسلو، ولا لأنه لم يستفد من تجارب الآخرين في العالم ولم يقلّد نموذجاً منها. فشل الشعب الفلسطيني لأن قضيته لا تشبه أي قضية أخرى، ولأن الاستعمار الاستيطاني ومن خلفه الإمبريالية العالمية حمّلتا شعب فلسطين وزر قضية العرب والتحرر العربي كله. وهي تحمّله الآن مسؤولية احتمالات تشكيل النظام «الشرق الأوسطي الجديد». هكذا يبدو الآن المأزق الفلسطيني انعكاساً لأزمة حركة التحرر العربية وملفاً معلقاً من ملفاتها الكبرى. هنا يجب أن نبدأ في السؤال عن مصير ومستقبل التحولات السياسية العربية ومدى جهوزيتها أو استعدادها لصياغة برنامج بديل. هنا يجب أن نعيد النظر بكل الإرث السياسي الذي قاد إلى فقدان السيادة العربية وعدم تحرير فلسطين. هنا يجب أن نسأل عن الروابط والعلاقات العضوية بين الاستقلال السياسي وبين قدرة العرب على التصرف بثرواتهم ومواردهم لحماية استقلالهم وكيف يكون ذلك في التعاون والتنمية والتكامل.
كشفت الثورات العربية عن بضع حقائق مهمة. تتصرف الإمبريالية بالنفط وتجارته وأرصدته، كما تتصرف بمدخرات الدول والزعماء والنخب. المليارات التي تصادرها أميركا والاتحاد الأوروبي والنشاطات الاقتصادية التي تفرض عليها العقوبات تدل على حجم التبعية والترابط بين النظام العربي والإمبريالية. نفط العرب وأموال العرب تستخدم بأكثر من وسيلة ضدهم، ولو شاء العرب لاسترجعوا فلسطين بشرائها قطعة قطعة. أزمة القضية الفلسطينية اليوم بهذا التواطؤ التاريخي المباشر وغير المباشر بين النظام العربي والأمبريالية.
فمن عواصم العرب وحدها يمكن أن تُستعاد مركزية قضية فلسطين وأهميتها.
مرة ثانية أو ثالثة يُقال إن الأميركيين يرتبون الأوضاع الإقليمية تسهيلاً لمهمة حل قضية فلسطين. قيادة العرب الخليجية تراهن هذا الرهان كما وعدها الأميركيون في الحرب على العراق واحتلاله. ربما كان الأميركيون يرتبون حلاً ولكن نصفوياً. في ميزان القوى الراهن ليس من أفق لمدريد بل في أحسن الأحوال لأوسلو ثانية.