صناعة النور في زنازين التحدي :: الأسيرة المحررة وفاء البس عصمةٌ و إرادةٌ لا تلين مع أمنيات لعلها تتحقق

سبعٌ مرت ولم تكن عابرات دون آسى ، من يوم أن خذلها حزامها الناسف في العشرين من حزيران من عام 2005م ، حتى عانقها النور فأخرجها من غياهب السجن ، كثيرة هي الدوافع التي أوصلت وفاء البس إلى تنفيذ عملية إستشهادية ، منها ما يعرج في الذاكرة من ظلم شعبها وتشريده ، وإهماله في مخيمات اللجوء ، والتعدي عليه وقتل أطفاله ، ومحاصرته وحروب شتى ضده ، غرست في نفسها دوافع الانتقام والثائر ، لم تكن محبة للموت ولا لبوح الفناء ، ولا من هواة المغامرات الخطرة لترمي جسدها الغر وهي ابنة العشرين من عمرها ، وتفتيته في جملة من الأعداء قرب بوابة بيت حانون ' ايرز' ولكنها الوطنية العاليا ، عندما تستحكم النفس تحكم على الجسد، فيهان في هوان العيش كل عزيز ، هي أقدارٌ تُسطّر في حضرة الألواح ، والله يفعل ما يشاء ، فشلت الاستشهادية وفاء من الوصول الى حلمها ، ونجح المحتّل من إحكام قبضته عليها وعلى حزامها الناسف .

التحقيق .. توابيت تمر وموت يخرج من قلوب حاقدة

هي صفحة ألم فتحتها الأسيرة المحررة وفاء البس والتي خرجت ضمن صفقة تبادل الأسرى ما بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس ، مع 1026 أسير وأسيرة غيرها ، مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط ، البس التي فتحت ذاكرتها لـ (أمد) وزعت جراحها على السامعين فأدمت القلوب وعصرت الأفئدة ، فقالت :' المحققون الإسرائيليون شرٌّ خالص المرارة لا يمكن تحمله ، خاصة وأنا شابة صغيرة ، أمامهم كانت الغرفة مظلمة وموحشة ، وكانت عيون المحققين ثعابين سوداء ، خيّل لي أنه في كل لحظة سألدغ فأموت ، ولكنني ثبت وصبرت وتحديت ، حتى بان لهم أنني ذات إرادة صلبة ، ويومٌ بعد يوم ، تعودت أن أكون أكثر صلابة وثبات ، حتى انهوا معي التحقيق ، وحكمت عليا محكمة صهيونية بالسجن لمدة 12 عاماً ، قضيت سبعاً منها في سجن تريستا في الرملة، وهذا السجن للجنائيات وليس لسواهن ، فعاملتني سلطات السجن معاملة الجنائيات وليس المناضلات بالمنظور الفلسطيني ، وأخضعتني لكثير من الضغوط الجسدية والنفسية والقهرية ، حتى حرمتني من أقل حقوق المعتقلين الأخرين ، منعت إدارة السجن عني الملابس فلبست من أخواتي الضفويات خلسة ، ونزعت عني ثياب المعتقلات العاديات وأجبرتني على إرتداء الملابس البرتقالية التي تدل على أني جنائية ، ولم تمنحها تهمتي غير الكثير من القسوة ، والتضييق علي، حتى الفلوس لم تصلني ، وانصرف عني الصليب الأحمر ، ولم يقبل مني طلبات زيارة لأهلي في السجن ، بحجة أن شاليط لم ينل زيارة واحدة لأهله ، وقضيت السنوات بعلقم الحياة وقسوتها ، ودارت عليها أزمنة خلت فيها أنني انتهيت ، خاصة في أشهر عزلي التي قضيتها على مدار ستة أشهر كاملات ، في زنزانة لا تتسع لسواي واقفة ، محلها تحت الأرض ، والنور والهواء سدى ، لا جوال لهم في ناظري ولا ملمس لهم في حواسي ، وهبني الله وحده الصبر ، ومكنني فصمدت ، حتى خرجت ، وحين سمعت عن إضراب أخوتي في السجون وعزلهم ، خاصة الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات ، قررت الإضراب عن الطعام تضامناً معهم ، وكم تمنيت يوم عزلي أن يخرج شعبي الى الشوارع منادياً وهاتفاً وصارخاً في العالم لكي أخرج من العزل وليس من السجن ، ولكن الله عصمني الهلاك فأنتصرت بقدرته على السجّان ، وأخوةٍ وصلهم نبأ تردي صحتي ولم يحركوا ساكناً، وعذري لهم ،انهم أخوتي في وزارة الأسرى '.

لوجه السجّان قبح لا يوصف .. فهل من مدكر؟

وتقول الأسيرة المحررة وفاء البس عن ظروف إعتقالها وأساليب إدارة السجن : ' يحاول الاحتلال إبعادنا عن المحتوى النضالي ، وان يحرف تفكيرنا إلى أشياء أخرى ، فقد منع عنا الفضائيات وسمح فقط بقناة إباحية شاذة ،الأمر الذي رفضناه وقمنا بإخراج أجهزة التلفاز إلى الخارج ورفضنا عودتها إلا بعد عودة القنوات الإخبارية ومنع القنوات الإباحية، و عوقبت من إدارة السجن بسبب حجابي ، بحجة انه من الممكن أن استخدمه كمشنقة وأقتل نفسي، وهم لا يدركون معنى أن ينتحر المرء في ديننا فيخلد في نار جهنم ، صه لهم ، ورغم ذلك استطعت أن أحول فرشة مهترئة التي كنت أنام عليها الى حجاب يستر شعري من السجانين ، الذين كانوا ينزعون حجابي بعنفوان كبير ، ويمسكونني من شعري ، ويدورون بي في الغرفة، وهم يضحكون ويسخرون ، وكم كان قلبي يصرخ حتى يصل صراخه السموات العلا ليثبتني ربي ويمكّن لي في نفسي ، ما يفسد عليهم قهري وإذلالي، وفي كل مرة كان الله يمدني بالعزيمة فأنتصر وينهزمون .'

فن الرسم في المعاناة له ألوان أخرى

وتؤكد الأسيرة المحررة البس أن سجن العزل يضع الأسير في ظروف نفسية مدمرّة ، ومن لم يذق السجن أو غرفة العزل الانفرادي عليه أن يجرب حبس نفسه في صندوق مغلق لا تدخله شمس أو هواء لكي يشعر بالأسرى مع التأكيد أنه لن يتحمل أن يمكث ساعة في هذا المكان المغلق '

وهي الإرادة في كسر القيد ولمُّ الوجع ومن أجل ذلك تعلمت البس في العزل اللغة العبرية ، وتفجّرت لديها موهبة الرسم ، تقول ' كنت استغل الورق الذي يلفون فيه الطعام في الرسم ، ولا أنسى يوم أن رسمت الجندي شاليط بملامح بائسة ، وكتبت بالعبرية 'لن ترى النور يا شاليط قبل أن نراه نحن '

وفاءٌ للذين أصبحوا نهراً لسفن الحرية

ولم تنس وفاء البس أمنيتها وهي تحكيها بغصة الحلق وحسرة بالغة لـ (أمد) :' فرحة العودة إلى أحضان الأهل بعيدا عن غرفة العزل الانفرادي ناقصة ، لطالما أن المفاوضين على الصفقة لم يفاوضوا على شهداء الأرقام وعلى رأسهم منفذي عملية الوهم المتبدد التي أسر فيها شاليط ( محمد فروانة وحامد الرنتيسي) وكم كنت أتمنى أن ندخل غزة ونحن نحملهم فوق رؤوسنا ، فهم ضحوا بدمائهم الغالية من أجلنا ولولاهم ما كنا اليوم بين أهلنا وأحبائنا أحرار رغما عن المحتل ، لذا عندما عانقت والدة الشهيد فروانة أرخيت الدمع على كتفها الطاهر معتذرة لها ، لخروج دون جسد محمد ، فقبّلت جبيني وقالت عوضني الله بك يا ابنتي ولي من بعد محمد صبرك على ما قضيتي في السجن '.

كلمة وفاء إلى رجال المقاومة والتسع الباقيات

وهي التي عاشت ما عاشه يوسف النبي ّ عليه السلام في سجنه ، سبع عجاف وصعاب ، والله الذي أمده بالصبر ، هو الله الذي ثبت وفاء في غيبتها ورغم ما مرَّ عليها ، لم تنس أن تذكر من كان سبباً لوضع نهاية ولو جاءت متأخرة لظلم السجّان وقهره ، فتقول تقديرها لرجال المقاومة ، كلمات مضيئة على جبهة كل من كان له يد، وسعى في سبيل إنجاح الصفقة ،مشددة على أن تحرير الأسرى الباقين في سجون الاحتلال ، لا يكون من غير أسر جنود إسرائيليين ، لأن الاحتلال لا يفهم غير لغة القوة .

وفاء البس التي خرجت إلى النور بعد عتمة السنوات السبع ، كادت أن تبقى في زنزانة الوجع والقهر والألم ، لسمو في روحها ، وتضامناً مع أخوانها وأخواتها الأسيرات الباقيات في السجون الإسرائيلية، فرفضت عندما سمعت الإفراج عنها دخول قطاع غزة بدون الإفراج عن باقي الأسيرات التسعة ، ولكن يد المفاوض الفلسطيني وصلت إليها ، واقنعتها أن اليد ستصل إليهن عاجلاً ، فخرجت من بعد محاولات ، وكلها أمل أن تستقبلهن عبر أثير الضوء ، دون جدران ولا سجّان'

ذوو القربى على أجنحة طير الفرح

سمير البس والد الأسيرة المحررة وفاء ، حيث يسكن في تل الزعتر ، شرق جباليا ، شمال قطاع غزة ، فتح خيمة إستقبال للمهنئين بالإفراج عن ابنته ، الخيمة التي كانت بمثابة الوطن الصغير ، حيث راح نظرك وجدت تهنئة من هذا الفصيل وذاك الفصيل ، الكل حاضر ولا غياب لغير الانقسام ، تشعر انك تعيش في الوراء الجميل ، في الوحدة الوطنية ، حيث كان الفلسطيني قبل السنوات الخمس ، ومن هنا قال ابو ياسر البس والد وفاء لــ (أمد) :' هي مناسبة طيبة لكي تعانق أرواحنا المحبّة ، ونذهب بسنوات الفرقة الى بئر سحيقة ونردم عليها ، ونكمل الطريق نحو البيت الواحد ،هي ابنتي التي عاشت سبعاً من عمرها وفي سنها ، زمن القسوة والمعاناة على يد الاحتلال ، وأنا فخور بها ، وعزيزة قلبي هي ، رفعت رأسي بصمودها ، وعادت إليَّ بإكليل الفرح والفخار ، لست نادماً على ما فعلته وفاء ، فالعدو وحش شرس لا يفهم غير لغة القوة ، ومسارنا الجهاد والنضال والمقاومة ، حتى تحرير كافة الأسرى وتحرير بلادنا من دنس الاحتلال ، شكراً لرجال المقاومة البواسل ، ورحم الله الشهداء الذين ضحوا من اجلنا ، وخاصة اللذان استشهدا في عملية الوهم المتبدد وأسروا الجندي شاليط ، وأدعو هنا المقاومة ان تواصل نهجها بأسر جنود الاحتلال ، لكسر قيد من تبقى من أسرانا جميعهم ، آجلاً غير آجل'.

وهي الفرحة قد تمت والانتصار قد أعلن وأصبح جسد وفاء البس في جغرافيا الحرية ، بعيداً عن البرش والقيد والعزل والسجّان ، وهي التي تختم بقولها:' كل عام ولدينا شاليط '.