أزمة المقاومة في قطاع غزة
يسلط التهديد الإسرائيلي بشن عدوان جديد على قطاع غزة، الضوء على واقع المقاومة المسلحة في القطاع. فعلى الصعيد السياسي، يمكن أن نلحظ فوضى التصريحات الفلسطينية رداً على التهديدات الإسرائيلية. ففي حماس، على سبيل المثال، يمكن أن نقرأ أكثر من موقف. قيادات الخارج لا تتردد في التأكيد أن العدوان واقع فعلاً، وأن المقاومة في جهوزية كاملة وأن قوتها أصبحت، ما بعد عملية «الرصاص المصهور»، أفضل مما كانت عليه قبلها. تلتقي مع هذه المواقف تصريحات لبعض الناطقين باسم حماس من داخل القطاع، مؤكدين أن القطاع سيلقن الأعداء درساً جديداً. أما قيادات الداخل، ونعني بها تحديداً القيادي في حماس إسماعيل هنية، فإنها تدفع باتجاه تخفيف التوترات، وخفض التوقعات، من خلال نفي احتمال قيام العدو بعدوان يكرر حملة «الرصاص المصهور»، مستبعدة أن تتجاوز عمليات العدو ما يقوم به حالياً من ضربات محدودة. ولا نعتقد أن التباين بين مواقف قيادة الداخل وقيادة الخارج يعكس تبايناً في تقدير نوايا العدو وتحركاته، بقدر ما يعكس تبايناً في رؤية «الداخل» و«الخارج» لواقع حال القطاع، وواقع حال المقاومة فيه.
وإذا حاولنا أن نذهب بعيداً في تحليلنا للتباينات بين قيادات حماس في الداخل وقياداتها في الخارج، لقلنا إن المسألة تكمن في طبيعة الاستراتيجية التي تتبناها حماس، ميدانياً، بما يتعلق بالمقاومة. فمن الواضح أن الحركة الإسلامية أخذت، على ضوء نتائج «الرصاص المصهور» وما ألحقه بالقطاع من كوارث بشرية وعمرانية، تنحو منحى التهدئة الدائمة وسحب الذرائع، كلما لاحت في الأفق إمكانية لمرحلة دموية جديدة. وتضع حماس في اعتبارها أكثر من عامل، يدعوها لمثل هذه السياسة. من بينها عامل الحالة الشعبية التي ما زالت تنوء تحت ضغط نتائج حرب «الرصاص المصهور»، ولم تتلق حتى الآن من المساعدات والحلول ما يعالج هذه النتائج. ومن بينها أيضاً عامل الأمن الخاص بقيادات الحركة، ولعل الدكتور محمود الزهار كان أكثر قيادات حماس فصاحة، حين رد على تصريحات للرئيس الفلسطيني محمود عباس يتساءل فيها بتهكم عن الأسباب التي دعت حماس إلى وقف إطلاق الصواريخ. يومها قال الزهار إن عباس يريدنا أن نطلق الصواريخ كي نوفر لإسرائيل المبررات والذرائع لاغتيال قيادات حماس.
ومن بينها، أيضاً، وهذا هو الأهم، فشل حماس المواءمة بين متطلبات السلطة، ومتطلبات المقاومة. ولقد برزت هذه المسألة بجلاء واضح، حين أصدر مسؤول دتخلية حماس فتحي حماد، تصريحاً، منذ أسابيع، زعم فيه أن الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة في القطاع (حركة حماس ـ الجبهة الديموقراطية ـ الجبهة الشعبية ـالجهاد الإسلامي) توافقت على وقف قصف الأهداف الإسرائيلية عند خطوط التماس وداخل الحدود. ردود الفعل على التصريح كانت صاخبة حين نفت هذه الأذرع، كلها بلا استثناء، علمها بما ورد على لسان حماد، وأكدت تمسكها بحقها في كل أشكال المقاومة. غياب الاستراتيجية لدى حماس، وفشلها في المواءمة بين متطلبات السلطة ومتطلبات المقاومة، يبرزان عند المنعطفات الأمنية الحادة، أي كلما سقط للفلسطينيين قتلى بنيران الاحتلال. إذ يلاحظ، في كل مرة أن الرد على العدوان يكاد أن يقتصر على عدد من الأذرع العسكرية ليس من بينها حماس. وأن داخلية هنية تبادر على الفور إلى الاتصال بهذه الأذرع تدعوها إلى وقف القصف، والعودة إلى الالتزام بالتهدئة القائمة خارج إطار الاتفاق الرسمي مع العدو. وهو الأمر الذي دعا رئيس هيئة أركان العدو الإسرائيلي غابي أشكنازي للقول إن حماس «تكبح جماح» الفصائل الفلسطينية وتمنعها من قصف الأهداف الإسرائيلية. وهو أيضاً ما لفت نظر الصحافة الإسرائيلية، التي فسرت الأمر تفسيراً مختلفاً حين قالت إن حماس التي تلقت ضربات قاسية في «الرصاص المصهور» ـ على حد تعبير الصحف ـ أوكلت إلى الفصائل الأخرى الرد على العمليات الإسرائيلية.
غياب استراتيجية للمقاومة لدى حماس (أو لنقل: اعتماد حماس استراتيجية غامضة) أربك فصائل المقاومة الأخرى في القطاع. كما أن حالة الانقسام الفلسطيني أوجدت وضعاً اضطرت معه الفصائل الفلسطينية إلى إسقاط عدد من التوجهات من حساباتها.
ففي النقطة الأولى (أي غياب الاستراتيجية، أو غموضها، عند حماس) نلاحظ أن الفصائل الفلسطينية ترد بحذر شديد على الأعمال العدوانية الإسرائيلية على القطاع. فتكتفي في سياق الرد على مقتل سبعة من الفلسطينيين على سبيل المثال، بإطلاق عدد محدود من القذائف لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي التي كانت في وقت سابق ترد على عدوان مماثل، بعشرات الصواريخ والقذائف. ويمكن أن نقرأ هذا الأمر على أن الفصائل، بخطواتها المحدودة هذه، إنما لا ترد على العدوان بما يتناسب ونتائجه الدموية، بقدر ما تحاول أن تبعث، لمن يهمه الأمر، برسالة تؤكد فيها أن المقاومة ما زالت موجودة، وأن إرادة القتال ما زالت هي الأخرى موجودة، وأن القضية تكمن أولاً وآخراً في طبيعة الوضع المرتبك الذي تعيشه حماس، كما تعيشه مجمل الحالة الفلسطينية.
وهذا ما يقودنا إلى النقطة الثانية: لنذكّر بأنه مع انسحاب قوات الاحتلال من القطاع في عام 2005 كثرت التكهنات عن مستقبل المقاومة فيه، وكانت أرقى هذه التكهنات والدراسات هي تلك التي دعت إلى الربط، استراتيجياً، بين المقاومة في الضفة الفلسطينية والمقاومة في القطاع بحيث يتحول القطاع بشكل أو بآخر، إلى القاعدة الخلفية للمقاومة في الضفة، وقرئ الأمر بتفاؤل بحيث تتفرغ المقاومة في الضفة لمواجهة المستوطنين وجنود الاحتلال، بينما يقوم القطاع بدور قاعدة الإسناد الخلفية، إذ يتحول إلى مراكز للتدريب، والتذخير، ليمد الضفة بحاجاتها المختلفة، كما يواصل حربه ضد الاحتلال بطريقتين: الأولى مواصلة عملياته القتالية ضد مواقع الاحتلال عند خطوط التماس، في إغارات مفاجئة على الحواجز ومراكز الحماية (كعملية كرم أبو سالم التي أسر فيها شاليت، أو عملية الطريق إلى فلسطين التي نجح فيها مقاتلون من الجبهة الديموقراطية من تسلق جدار الفصل والحواجز الشائكة والإغارة على موقع إسرائيلي خلف خطوط التماس مع القطاع) دون أن يسقط من الاعتبار إمكانية تسلل مجموعة قتالية، بين فترة وأخرى إلى مناطق 48 لاستهداف أحد المواقع العسكرية الإسرائيلية.
من الواضح أن معظم هذه التوجهات بقيت حبراً على ورق. فقد لعب الانقسام دوراً رئيسياً في شل هذه التوجهات وتعطيلها، وخاصة أن اهتمامات حماس انصبت، بعد الانقسام، على إجراءاتها الداخلية («ضبط» القطاع والسيطرة عليه) وتصفية تنظيم فتح وتجريده من سلاحه. كما انصبّت اهتماماتها، على «ضبط» فصائل المقاومة، وخاصة بعد حملة «الرصاص المصهور»، وحماية سلطتها. كما لعبت سياسة السلطة الفلسطينية في الضفة دوراً مكملاً لتوجهات حماس، حين نجحت في شل أعمال المقاومة ضد الاحتلال والمستوطنين، وكان مدخلها إلى ذلك حل «شهداء كتائب الأقصى» الجناح المقاتل لفتح، ما قطع الطريق على باقي الأذرع العسكرية، ووضعها في مواجهة أوضاع شديدة التعقيد، وأمام خطر الصدام المباشر مع أجهزة السلطة نفسها.
هذا الارتباك والتردد في وضع المقاومة الفلسطينية في القطاع، يدعونا للتوقف أمام إحدى محاضرات الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، والرئيس السابق لأركان جيش العدو، حالوتس، قال فيها إن الهدوء في لبنان، (بعد عدوان تموز/ يوليو2006) وفي القطاع (بعد «عملية الرصاص المصهور») إنما سببه وصول الرسالة بوضوح إلى الطرفين اللبناني والفلسطيني بأن الرد الإسرائيلي على أي استفزاز سيعتمد استراتيجية «الضاحية»، في إشارة إلى سياسة التدمير الشامل التي اعتمدها طيران العدو في لبنان في حرب 2006 وتسوية أحياء بأكملها بالأرض. وهو الأمر الذي تكرر أيضاً في العديد من الأحياء في قطاع غزة.
وهذا الارتباك والتردد في وضع المقاومة يدعونا للتساؤل إذا كان حديث حالوتس صحيحاً أم أن فيه مبالغات؟ سيبقى السؤال مطروحاً، مع التأكيد أننا بالضرورة مع المقاومة الراشدة التي تأخذ بالاعتبار المصالح الفلسطينية بعيداً عن الغوغائية الإعلامية التي يتبعها بعض الفصائل والمسؤولين دون أي حساب واقعي لطبيعة اللحظة السياسية.
في تقديرنا، أن المقاومة تعيش وضعاً معقداً، من أهم أسبابه الانقسام، وفشل حماس في المواءمة بين متطلبات السلطة ومتطلبات المقاومة. ونعتقد أنها ليست المرة الأولى التي تعيش فيها المقاومة الفلسطينية وضعاً صعباً. ونعتقد، في السياق نفسه، أن المخرج من هذا الوضع سيكون مصدره الضفة الفلسطينية، لا قطاع غزة. فالأوضاع في الضفة تتجه نحو الانفجار في تراكمات، ولو كانت تبدو للمراقبين بطيئة. وحين تنفجر الأوضاع في الضفة، وتخترق السقف السياسي الذي يرسمه حالياً رئيس السلطة محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض، فإن القطاع سوف يقف عند مفترق طرق: إما أن تبقى حماس تغلب مصلحتها في السلطة على مصلحة المقاومة، وتفقد بذلك المشروعية السياسية لوجودها كطرف مقاوم، وإما أن يتحول القطاع، بكل أذرعه العسكرية، إلى جزء من الانفجار الفلسطيني في وجه الاحتلال والاستيطان، وتتكامل الأدوار بين إقليمي الضفة والقطاع، وتشق الحالة الفلسطينية حينئذ الطريق نحو مرحلة نوعية جديدة.