هل يريد اللبنانيون علاقات سورية مع دولتهم أم مع رموز طوائفهم؟

وقع في الآونة الأخيرة كلام كثير على جانبي الطريق المؤدي الى دمشق، يتناول «التواصل والفواصل» في العلاقات الثنائية، بعضه يعود الى الرئيس بشّار الأسد، فيما الآخر يعود لرئيس الحكومة سعد الحريري، فهل ذهبت «سكرة الزيارة لتحلّ الفكرة؟»، أم أن الرئيس الأسد قد «بالغ» في مقاربته للنظام السياسي الهش، فيما جمر المذهبيّة يصطلي تحت الرماد؟. ثم هل ان الذين بادروا الى الرد عليه علمانيون وطنيون منزهون من لوثة الفئوية والطائفيّة؟، وهل كان تصويبهم يستهدف دمشق، أم زيارة الحريري، والنقلة النوعيّة التي حققها؟.
كان الاعتقاد بأن موضوع العلاقات قد خرج من «غرفة العناية الدوليّة الفائقة» لينعم بالاستقرار بعد الصفحة التي فتحت، لكن بعض النظراء الدولييّن المتابعين لحلقات هذا المسلسل الطويل يعتقد «أن هناك في لبنان من يصرّ على ان تبقى العلاقات تحت الرعاية الدوليّة، في الوقت الذي يؤكد فيه المسؤولون على علاقة نديّة يحتمها تكامل المصالح».
وينطلق الفكر «التدويلي» من حقيقة وواقع. الحقيقة أن النظام في لبنان ينتسب الى الطوائف، وهذه تنتسب بدورها الى «محميات دوليّة»، كل طائفة لها خارج تلوذ به، وتعتمد عليه. أما الواقع فدونه مسار طويل بدأت إحدى أبرز محطاته في مطلع أيلول 2004 عندما صدر القرار 1559 عن مجلس الأمن بأكثريّة 9 أعضاء، وبدفع فرنسي ـ أميركي ليرسم حدود العلاقات بين لبنان وسوريا، وكانت حدودا متوترة قائمة على الكيديّة، وتديرها شبكة مصالح خارجيّة تتحكم «بالريموت كونترول» اللبناني، فيأتي التجاوب «غب الطلب».
ومع انتهاء عهد الرئيس جاك شيراك، أبرز مهندسي القرار 1559، ووصول الرئيس نيكولا ساركوزي الى الاليزيه، حدثت تطورات دوليّة وإقليميّة كثيرة دفعت بالرئيس الفرنسي الى ان يبحث عن دور مختلف في المنطقة، انطلاقا من لبنان، فبادر الى أحداث أول فك ارتباط مع القرار 1559، والى اعتماد سياسة اليد الممدودة مع الرئيس بشار الأسد في إطار «صفقة من مظاهرها التعاون في مسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة، وإنقاذ الوضع الداخلي من براثن الفتنة المذهبيّة، مقابل فك العزلة الدوليّة عن سوريا، وفتح الباب أمامها للعودة الى فرنسا، ومنها الى الاتحاد الاوروبي، والمجتمع الدولي».
ما يمكن استخلاصه من تلك المرحلة: فك ارتباط فرنسي ـ أميركي في مواجهة سوريا انطلاقا من لبنان، وتعويل فرنسي ـ أوروبي على دور سوري مسهّل ومساعد على إعادة إحياء المؤسسات الشرعية، وحماية الساحة اللبنانية وفق حدود الممكن والمستطاع من تجاذبات المصالح الناشطة في المنطقة.
ويضيف أصحاب نظريّة «الرعاية الدوليّة للعلاقات اللبنانيّة ـ السوريّة» أن هذا المسار أنتج اعترافا دبلوماسيّا، وتبادلا للسفراء، إلاّ أن الرئيس الحريري قرر تغيير اتجاهات البوصلة، واختار يوم السبت 19 كانون الأول، ليفتح صفحة جديدة مع دمشق، وحدد عناوينها بثلاثة: علاقة بين دولة ودولة، تكامل في المصالح المشتركة، وتحالف في مواجهة أي مغامرة إسرائيليّة...
وبقي السؤال: هل سيقرأ كل اللبنانيين في هذه الصفحة؟
ويأتي الجواب من دبلوماسيين قرأوا حديث الرئيس الأسد الى « نيويوركر»، ليوافقوه الرأي على أن مشكلة العلاقة مع سوريا، هي مشكلة النظام في لبنان، وهناك تكاذب كبير يمارس. يقولون بالنظام البرلماني الديموقراطي، فيما يمارسون نظام فيدراليات الطوائف والمذاهب، وكلّ طائفة بوسعها ان تعطّل مسيرة البلد إذا كان التوجه الرسمي لمؤسسات الدولة لا يتوافق ومصلحتها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، ومن يذهب الى دمشق إنما يذهب بقوة طائفته وحجمها التمثيلي، وليس بقوة إنجازاته الوطنيّة؟!.
ويرى هؤلاء أن التصويب الأخير لم يكن موجّها ضد الرئيس الأسد وحديثه عن الفتنة الطائفيّة، بقدر ما كان للنيل من الرئيس الحريري وانفتاحه الواعد على دمشق. ماذا يريد اللبنانيون من سوريا؟. الجواب عند قادة الطوائف والمذاهب وليس في مكان آخر. حتى ولو اجتمع المسؤولون وأجمعوا على قرار ما، تبرز مرجعيّة روحية تقول بعكسه ويتعطل القرار. والغريب ان اللبنانييّن قالوا بالاعتراف الدبلوماسي، فكان لهم، وقالوا بإقامة السفارات وتبادل السفراء، فحصل التجاوب، وبدلا من ركوب الموجة الجديدة راح البعض يحنّ الى القرار 1559 وينبشه من أكوام كيديات الماضي، فيما البعض الآخر يعد رزمة من الشروط ليطرحها على رئيس الحكومة في أي عمل يقدم عليه، او عند أي خطوة جديدة يريد ان يخطوها باتجاه دمشق، ومع ذلك لم ييأس، وكان مستجيبا، وطلب أولا من جميع الوزراء في الأكثريّة والأقليّة ان ينظر كلّ منهم في الاتفاقيات الخاصة بوزارته والمبرمة مع دمشق، وتسجيل ملاحظاته بشأنها، لكن ولغاية الآن لم تعرف النتائج. قالوا بترسيم الحدود، فاستدعى اللجنة المختصة وكلّفها القيام بما يترتب عليها. وقالوا بملف المفقودين، وهو حسّاس، ويتداخل فيه البعد الإنساني بالأمني بالسياسي بالقانوني بالقضائي، فضلا عن عامل الزمن، ومع ذلك طلب إنزاله عن حبال المزايدات، ووضعه بعناية اللجان المتخصصة التي قطعت مسافات بحثا عن الحقيقة، وكيفيّة مقاربتها من الطرفين اللبناني والسوري.
وما بين 19 كانون الأول 2009، لغاية 14 شباط 2010 ، أسابيع معدودة، بدت واعدة: تنسيق وتواصل، واتصالات هاتفيّة مباشرة أفصح عنها رئيس الحكومة الشاب أكثر من مرّة، وتفاهم حول كيفيّة مواجهة التهديدات الإسرائيليّة، وفترة سماح للمسؤولين اللبنانييّن: «ضعوا خارطة طريق للعلاقات التي ترتاحون إليها، ونحن على استعداد لمناقشتها والتفاهم حول كيفيّة وضعها موضع التنفيذ»، ومع ذلك بقي السؤال: هل أحدث 19 كانون الأول فاصلا بين ماضي العلاقات ومستقبلها؟. ويأتي الجواب إستنسابيّا إذ يؤكد مؤيدو النقلة النوعيّة، على الآتي: اكتمال عقد المصالحات الرسميّة، وعودة العلاقات الجيدة بين القيادة السوريّة وكلّ من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة، والإنكباب على تحرير العلاقات من الشكوك والكيديات، وبنائها على أسس واضحة انطلاقا من التفاهم على الآليّة، مجلس رئاسيّ أم اجتماعات تقليديّة وفق هرميّة المؤسسات؟، والاستفادة من المعادلة السعوديّة ـ السوريّة التي لا تزال تشكّل ضمانة للبنان وللوفاق اللبناني ـ السوري. فيما يؤكد المتحفّظون على انه لا يمكن تغطية «السموات بالقبوات»، ويفترض التعلّم من دروس الماضي، وإذا كانت المعادلة السعوديّة ـ السوريّة مفيدة، فهذا ما يؤكد النظريّة القائلة بان العلاقة بين الجارين الشقيقين هي بحاجة دائمة الى رعاية دوليّة لتحافظ على توازنها.
لقد قال الرئيس الحريري كلمته، واتخذ قراره وخياره «لأن المصلحة الوطنية العليا تقضي بذلك»، وبقي معرفة ما هو المطلوب من سوريا؟، هل المطلوب منها إقامة العلاقات مع رؤساء الطوائف والمذاهب أم مع الدولة برموزها؟ الجواب ليس عندها، إنه برسم اللبنانيين؟!.