كيف تموت؟!

موضوع: كيف تموت؟! الثلاثاء 28 سبتمبر 2010, 3:33 pm

بقلم : أيمن عبوشي (كاتب وصحفي فلسطيني ) ..لم تجمع مشكلة من الأيقونات والأهازيج والشعر كما فعلت قضية فلسطين، ولم تستحوذ مسألة على الحواس الخمس أكثر من نصف قرن، ورهنت المستقبل بقدرتها على النمو كما هي هذه المعضلة التي تضمر وتكبر، وتكمن وتنفجر، وتفضح وتصدح، وتثور وتخور.. ويزدحم فيها الشعب والشهداء والعملاء والدرك في مخيم واحد، وتتلاقفها التيارات والأحزاب والأفكار والملل، فتصبح دارة الكل يذوبون فيها دون استثناء، حتى أولئك الراغبين في الانسلاخ عنها عنوة.

إنها صمام أمان، وكاسحة ألغام، وزناد بندقية، والنُدبة التي توخز صاحبها عندما ينسى ألم الماضي، ويشطح مع مذاق السكر في ثنايا الأكسجين، وبيت الأم الحنونة الذي يجتمع فيه الأبناء المتخاصمون في العيد.. هي ذلك الفيء الرطب، والشمس اللحوحة، والنبع والنهر والبحرين، ماء، حلوا ومالحا وميتا ومقدسا، وعلامة النصر بأصبعين تستحضر نكبة ونكسة وبضعة حروب.

هي وطن الجميع، ودولة من غير أرض، وشعب بلا وطن.. أسيرة وسيدة، لقيطة السياسة، وسليلة التاريخ.. كغيرها من البلدان، قاسية وحانية، وجرداء خضراء، لكن مذاقها المر عذب، وشذاها في إبطها المعجون برملها وزبيبها، له رائحة زيتونة ضاربة في القدم..

قضية لا يمكن ركنها في الأرشيف، أو إحالة ملفاتها إلى مجهول، أو التغاضي عنها كونها قصف عابر لمحطة كهرباء، هي ليست أرجوحة بين دولتين، ولا يمكن سكبها في إبريق شاي، أو رشفها مع النبيذ، أو طيّها في شطيرة في وجبة إفطار باردة.

تحمل خطايا الجميع على كاهلها، فيتبرأون منها خجلا، بيد أنهم لا يبرحونها، هي في عروقهم شجرة، وفي أسنانهم وجع.. هي ساعة الفصل التي ينتهي عندها كل شيء، بداية التكوين، وآخر الوصايا.. هي الشرف السليب، والأرض المغتصبة، والقدس المتآكلة، وسيما العار في جباهنا، وتاج الغار على رؤوسنا.. شاهدة قبر، وناصية شارع، وعماد أمة.. وملهاة الإعلام، وحديث الشارع، ووقود الثوار، وذريعة شذاذ الآفاق، ووطأة الاحتلال يحفر خندقا يقطع خط الاستواء رأسيا، ليصنع مجتمعا دوليا مقلما..

حاضرة كنعان، وشوق بابل، وصفعة ريتشارد، ولحد المغول، وابنة العرب، وصرة العالم، ومعراج المعجزات.. عصيّة على الخرافات.. هدية عمر، وملهمة صلاح، وضالة ناصر، وذنب الآخرين.. والجنة لمن يريد، والعبء على من تنصل منها..!

قضية عادلة، قُضاتها خصومها، حملتها اللافتات حبرا ودما، شعارا وتوبيخا ودمعة.. وتكالبت عليها الأمم، وتقطعت، واتصلت، وتشتت، وتداخلت، وضاقت، وصارت حصينة لا تموت..

فهل توأد حيّة..؟ وقد فعلوا، فانتفضت من تحت الرماد تزمجر.. مخادعة، يخالها الناس توارت، وما أن يستكينوا حتى تبعثر الأوراق، وتقلب الطاولة، وتنفخ في وجوه الحاضرين.. لا ينفع معها سلام أو قسمة أو تعايش، متمردة بطبعها، مرض عضال في القلب، طعمه لذيذ، وأثره قاتل.

فهل تموت..؟ هي قضية إن سكنت تعاظمت، كسنديانة اشرأبت ولم تشخ، مد وجزر، وعود على ذي بدء، يُقفل بابها فتخرج من السقف مدوّية كبركان ولول من مغص في لبّ الكرة الأرضية.. لا تنضبط بمفاوضات، ولا تُحشر في معاهدة، ولا تُشيَّع مع التطبيع، ولا تُحسم بمعركة، أو كارثة، أو تأريخ.. نطردها فتعود، ونقتلعها من رؤوسنا، فتسقط كزخات المطر.