ناصر والزمن العربي الجميل/أحمد ابراهيم الحاج

الزمان هو زمان الله، فهو خالق الزمان والمكان، ولا يمكن أن يوصف زمان الله الاّ بالجمال والقيمة النفيسة ويقابل بالرضا والحمد، ولكن عندما نضيف صفة للزمان فيصبح زمن الصفة لهذا الزمان أو تاريخ هذه الصفة. فبهذا لا نتعرض للزمان مجرداً وانما موصوفاً لنصف زمنا عاشته وتعيشه أمة.
ما دعاني لكتابة هذا المقال هو مشاهدتي لقناة وطني الكبير، فقد أثارت في هذه القناة الحنين الى الماضي العربي بما تعرضه من خطب لجمال عبد الناصر وأغانٍ وأناشيد وطنية عربية أضحت في غياهب النسيان وخاصة بصوت عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وغيرهم. وتمنيت أن أترك هذا الزمن الحاضر بكل مغرياته وعولمته وثرائه بعملة لا قيمة لها، وباكتشافاته من وسائل الترفيه والإتصال والإطلاع، وأن يعود بي الزمان الى الوراء لزمن الفقر في تلك الأيام التي كانت تشحنتنا بالكرامة والعزة والتوق الى التضحية والفداء، فنشعر بغنى النفس مما كان يعوضنا عن فقر الحال بعملة عربية لها وزنها وقيمتها مهما كانت ضئيلة. وكانت تلك الأيام السالفة في عهد ناصر تنمي فينا مشاعر الوحدة ودوافعها، أيام الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وتعرفنا بقضايا الأمة وآمالها. لقد كانت أياماً جميلة بسلبياتها وهزائمها وايجابياتها. تلك الأيام التي انتكسنا فيها، وبالرغم من نكستنا لم نقبل الإستسلام والخنوع، ونهضنا بآمالنا وتمنياتنا مع زعيم الأمة الذي نهض من كبوته يعمل بجد واجتهاد وبدأب على مدار الساعة لمحو آثار النكسة. وأعاد تسليح جيشه واستجمع الكفاءات والطاقات والإمكانات لمعركة تمحو الهزيمة وتعيد الأرض والكرامة للجندي العربي في زمن قياسي. لأنه آمن بمقولة أطلقها وهي "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" وأكد العرب بلاءاتهم الثلاثة "لا صلح لا مفاوضات لا إعتراف". حتى تكون المفاوضات بين طرفين متوازيين بالقوة، لكي لا يضيع الحق في ضوء اختلال موازين القوة التي هي الحكم والفيصل في نهاية المطاف. ثم أدار حرب استنزاف لكي لا يشعر العدو بالراحة على أرض احتلها بالسطو والعدوان. فكنا نعيش بطاقة الأمل المفتوحة التي ترسل الينا ضوء الحياة.
يعيش الإنسان في هذه الحياة بالأمل، حتى لو كانت طاقة مفتوحة ضيقة أو ثقباً من الأمل يبعث فيه ضوءاً خافتاً يشعر به بأنه ما زال يعيش مقاوماً لليأس والإحباط على أمل التغيير، وما زال يحتفظ بكرامته، صحيح أننا تلقينا هزيمة ثقيلة في عام 1967م، ولكن لم يمت فينا شعور المقاومة ولم ينطفيء علينا ضوء الأمل الخافت. وكما قال الشاعر:
أعلّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
واستمر يحدونا الأمل بالنهوض من الهزيمة والكبوة، بضوء من طاقة الأمل، آملين بجنودنا وفدائيينا أن يعيدونا للحياة من جديد. ولكن لم يمهل القدر الرئيس جمال عبد الناصرلكي يخوض معركة التحرير لكل الأراضي العربية، ولما حانت لحظة الحقيقة بعد وفاته، انتصر لنا جنودنا وفدائيينا الين عبأهم مادياً ومعنوياً، وسطروا أروع الأمثلة والكفاءة والشجاعة في حرب أكتوبر 1973م. وبدلاً من أن نبني ونوسع طاقة الأمل بناء على هذا النصر الذي سرق من جيوشنا ورجالنا، تسابقنا الى غنائم المعركة بعقد اتفاقيات سلام ما اسمنت ولا أغنت من جوع، فطرقنا باب العدو نستجدي منه السلام. وتشرذمنا بدلاً من أن توحدنا نتيجة المعركة. فضعنا في دهاليز العدو وأحلافه في مفاوضات الخطوة خطوة متفرقين. فتفسخ الصف العربي، وتفرقت الجيوش العربية تندب حظها العاثر في ضياع انتصارها وسرقته مقابل أثمان دفعناها وما زلنا ندفعها من أراضينا ومن كرامتنا ومن عزتنا.
وبعد وفاته صارت الأراضي العربية كالمشاع، يخترقها كل من سولت له نفسه بذلك، فكان الإختراق الإسرائيلي للبنان والعدوان على سوريا في كل يوم، وتجلاّ بأكبر صوره عام 1982 م باحتلال عاصمته بيروت والعبث فيها، وإجراء المذابح للشعبين الفلسطيني واللبناني الأعزلين، مذابح قانا ومذابح صبرا وشاتيلا والجيوش العربية تتفرج على بعد مئات الأمتار. وابتعد الفدائيون عن ساحة المعركة، وتم نفيهم بعيداً ينظرون للمشهد العسكري والسياسي من بعيد لا حول لهم ولا قوة، مكبلين مقيدين لا يقدرون على الوصول الى العدو الذي ينكل بشعبنا في كل ساعة وحين. لقد اختلت موازين القوة بعد وفاة عبد الناصر، وانفردت اسرائيل بكل دولة عربية من دول الطوق، تعتدي وتقتل في وضح النار. وتدير المذابح على الشعوب العربية. لقد كان الشارع العربي في حياته حياً يخرج في كل المدن العربية متظاهراً ومحتجاً ومطالباً بالتطوع للقتال، فبكلمة منه أو خطاب كان يبعثر الأوراق في المنطقة بهيجان الشارع العربي تلبية لدعوته. ولكن تم تدجين الشارع العربي وتبليد وتبريد مشاعره وأحاسيسه الأخوية والوطنية تدريجياً الى أن وصلت الى مرحلة الثليج والحفظ مفرزنة.
فصار الزمان العربي يتهاوى، من سيءٍ الى أسوأ، وتشرذم العرب الى تكتلات ضعيفة، وتوالى الإستسلام العربي والرضوخ للأمر الواقع، وتم توقيع معاهدات السلام بمنطق وحكم القوة، وصور لنا الإعلام العربي والخنوع العربي بأن اسرائيل بجيشها وتفوقها لن ولم تقهر، ورسخوا فينا الشعور بالإحباط واليأس والخذلان. وانتهكت حرمات المسلمين بالقدس، وصار العدو يستولي على أراضينا ويقيم المستوطنات. ولم نعد نسمع أو نرى تحركاً عربياً لا رسمياً ولا شعبياً لإنقاذ الأراضي والشعوب العربية في الأراضي العربية. وجاءت الإنتفاضات الشعبية الفلسطينية، وكان البطش الإسرائيلي بالشعب الأعزل، فصرنا نرى الأشلاء العربية والدماء العربية من الأطفال والشيوخ والنساء والعزل على أجهزة التلفزة يومياً نحن وصغارنا وكبارنا، فكنا نحزن ونتألم ونثور في بداية الأمر، حتى تبلدت مشاعرنا وأحاسيسنا، وتلبدت بمشاعر اليأس والإحباط. فصار الأمر طبيعياً روتينياً وعادياً لا يثير فينا نحن المواطنين العرب الإ مشاعر الحنق والغضب من أنفسنا فنهرب خجلاً من ذواتنا ومن بناتنا ونسائنا وأطفالنا، فنتناول الريموت كنترول ونقلب الى محطة أخرى متفادين جلد الذات، وعقاب النفس، وتأنيب الضمير، ومشاعر الحرج والخجل من أولادنا وبناتنا ونسائنا. ولما تأكد أعداء الأمة من تثليج وفرزنة مشاعر شعوبها الأخوية والوطنية تجاه ما يوجه للأمة من إهانات وصفعات ولطمات ولكمات، تمادوا في أطماعهم بالأمة. فاستخفوا بمشاعر شعوبها وراحوا ينهشون جسدها من كل حدب وصوب.
ثم جاء الإحتلال السافر لبلد عربي كبير، واستراتيجي ومهم لما تبقى من موازين القوى، حيث كان حامياً للبوابة الشرقية للوطن العربي، يصد عنها كل طامع أو متربص بها، وقوبل بالصمت المطبق للأمة بحذافيرها تتفرج على المعارك وانتهاك الأراضي والأعراض العربية، فزاد الزمن العربي تردياً وانحطاطا، فعاث الأعداء وسواقط الأمة فساداً ببغداد العاصمة العراقية، وبمدن العراق وبمساجده وبنسائه وشبابه وشيوخه ونخيله وبتروله وقياداته التاريخية. وعادت الشعوب العربية ترى الأشلاء العربية ممزقة والدماء مهدورة. وقابلتها بتبلد وهروب دون حراك بتظاهرة تستنكر ما يحدث للأبرياء. في حين تظاهر لذلك شعوب الأمم المعتدية استنكاراً لما تقوم بها جيوشها على الأرض العربية وضد الإنسان العربي. ونحن نكتم في صدورنا ونهرب من واقعنا ونقلِّب المحطات لنبعد عن انفسنا الشعور بمرارة الهزيمة والعار الذي يلحق بنا في ديننا وفي مشاعرنا الوطنية وفي أهلنا.
لقد كان الزمن العربي في عهدك يا ناصر وبكل سلبياته ونكسته وديكتاتوريته كما يدعي البعض زمناً جميلاً جداً اذا قورن بالزمن العربي الحالي الذي بدأ بالهبوط والتردي من بعد وفاتك. ومقارنة بالزمن الديمقراطي المزيف على الطريقة الأنجلوأمريكية. يرحمك الله ويتغمدك بواسع رحمته وغفرانه.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج