كنت في حيفا

ظهرا وصلت إليها، فاستقبلتني بأحضان حارة بذات حرارة شمس الظهيرة التي كانت تطفو بأشعتها على سطح البحر بحنو بالغ حتى بات هذا الأخير هادئا هدوء البهجة والطمأنينة، وكان مذ اخذنا طريقه صعودا إلى حيفا يبللني بنسيمه الخفيف العذب ليرطب قلبي الذي كان ينبض توهجا ولهفة كلما اصبحت اقرب اليها، دخلتها ويا للمصادفة من شارع العراق الذي بات اسمه اليوم كيبوتس جاليوت، أو لعل الأمر لم يكن مصادفة البته فالروح تدخل من حيث تحب إلى ما تحب أو كأن حيفا كانت تخبرني بهذا الدخول انها تعرفني جيدا بقدر ما اعرفها، فأحبت ان ادخل اليها من شارع يحمل اسم البلاد التي كونت على نحو خاص ذائقتي الجمالية ومعرفتي بشؤون الكناية والمجاز فأدرك المغزى حين دخلتها من شارع العراق، عرفت اسم الشارع من مضيفي صالح عباسي صاحب مكتبة 'كل شيء' الحيفاوية وحيث المكتبة هناك والتي بدت من الخارج مجرد دكان صغيرة لكن ما ان تدلف اليها حتى تدلف إلى دار كبيرة متعددة الغرف عامرة بالكتب العربية والفلسطينية بعناوين متنوعة وثمة مركز في الدار لأدب الاطفال تحت اسم 'براعم الزيتون' ولا يخفى على احد دلالات هذا الاسم وتطلعاته الوطنية، اخبرني عباسي انه اشترى هذه الدارغرفة غرفة، لا من اجل أن تتوسع اعماله التجارية بل من اجل ان يترسخ حضور المكتبة بمشروعها الثقافي الساعي إلى تكريس العربية كلغة وتاريخ وذاكرة وهوية ولزيادة وعي التثاقف ونتاجاته المعرفية في اوساط المجتمع العربي الفلسطيني هناك وتأكيد روابطه بالثقافة العربية ومجتمعاتها، وايضا من اجل ان تتوسع مساحة ملكيته في ارضه الحيفاوية درءا لأية مخاطر عنصرية محتملة. مكثت في المكتبة قرابة الساعة وأنا اتفحص المعاني والدلالات في كل ذلك وعباسي لا يكف عن الترحيب بي وبصاحبي في هذه الرحلة، وهو وباسم مكتبته صاحب الدعوة التي وفرت لي تصريحا للدخول إلى مكاني الأول لأقيم أمسية شعرية في مركز مساواة العربي الواقع في وادي النسناس في حيفا التحتا ومن أجل أتحدث عن 'مغناة أريحا عشرة آلاف عام' التي كتبت كلماتها فيما كتب نصها الموسيقي الملحن سمير مخول من الناصرة والتي غناها مع جوقة غنائية نصراوية.

خرجت من المكتبة اريد الصعود إلى الكرمل لعلني احتوي المدينة من هناك، ولأهبط بعد ذلك باحثا عن خطوات ابي في شارع الخوري وحارات وادي النسناس والتي طالما حدثني عنها وظل كذلك طوال سنوات غربته حتى اخر ايامه في بغداد، لكن عباسي قال سنذهب إلى رأس الناقورة، وقتكم قليل ولابد لكم ان تروا اكبر قدر ممكن من 'البلاد'. في رأس الناقورة رأيت هناك من على تلك الرأس جنة الله على الارض والغريب أنني لم ابك حينها تحسرا بل التمع الدمع في عيني بزهو غامض وقلبي يقول انت من هذه البلاد يا محمود، انت من هذه الجنة وهذا البحر لك، مهما قالت موازين القوى الظالمة، سننزل من رأس الناقورة ونمضي إلى عكا، سندخلها من تلة نابليون وندور في اسواقها العربية القديمة ونزور جامع الجزار الذي سنعرف ان اسمه الحقيقي هو جامع الأنوار، وقرب سورها سنشرب عصير الرمان وهو في موسمه، كان قليل الحموضة بخيط غنوج من السكر اخبرني ان البلاد بطبعها وطبيعتها لم تصب بسوء حقا كما كتب ذلك ذات مرة محمود درويش.

سنعود إلى حيفا ونصعد قمة الكرمل، السرو في كل مكان والمدينة كأنها حديقة واحدة، من هناك سألعن الاستيطان الذي ينازعنا حتى على جبال جرداء وكل هذا الخضار هنا، الهذا الحد يمكن للظلم ان يكون وللقسوة ان تتمادى وللعدالة ان تغيب وللضمير ان ينام ..؟؟ سأنزل بعد ذلك إلى وادي النسناس هناك سأرى كل ما قاله لي ابي من حكايات وساقول كم كان محقا في نوحه وكم كان صادقا في حبه لهذه المدينة، في هذا الوادي سأقرأ الشعر كما لم اقرأه من قبل وكنت بين اهلي وناسي وفي مكاني تماما، بعدها سأعلم علم اليقين عندما اذهب إلى قريتي 'عين حوض' ابنة حيفا الصغيرة التي صارت منتجعا للفنانين والتي لم يجرأ الاسرائيليون على هدمها لفرط جمالها، سأعلم واعرف اني امي لم تكن تبالغ ابدا وهي تتحدث عن حياتها الرغيدة في عين حوض وعن الجنة التي هي عليها وسادرك حينها ان امي وابي قد ماتا حقا بحسرتهما على هذه البلاد.