عينٌ على غزّة... وأخرى على مخيّمات لبنان!؟

ما يجري تحت أنظار العالم كلّه من قضم وضمّ للمواقع المقدّسة في القدس، وآخرها الحرم الابراهيمي ومسجد بلال إبن رباح المعروف بـ "قبر راحيل"، ووضعها على لائحة المواقع الأثرية في إسرائيل، هو استفزاز لمشاعر المسيحيين والمسلمين في حقوقهم على الأراضي المقدّسة. بل إن هذه السياسة المتمادية في تهويد القدس تزوّر الهوية الحقيقية لهذه الأماكن وأصحابها الحقيقيين.
وما يستمر من ضغوط إسرائيلية في محاصرة الجزء الشرقي من المدينة المقدّسة، وتضييق الخناق على أهاليها التاريخيين، وما يجري من انتهاكات واقتطاعات لأراضي ومواسم عُمُر فلسطينية، لاسيما في اقتلاع أشجار الزيتون الرامزة إلى شعارات عميقة في الوجدان المسيحي وحتى الإسلامي، إن كل ذلك يشكّل تحدّيًا صارخًا يسجّله العقل "الخرافي" المتطرّف في إسرائيل لشرعة القوانين الدولية وأبسط حقوق الإنسان.
غير أن فضيحة الفضائح تبقى في هذا الوضع المأساوي العربي والإسلامي والغربي "المتفرّج" على الواقع المهين في محاصرة "غزة" التي عانت جحيم الحرب الإسرائيلية عليها عام 2008 واستمرّت تعاني الأمرّين من الحصار المضروب من الجانبين الإسرائيلي والمصري.
فليست صحيحةً تلك الادّعاءات الإسرائيلية التي تروّج للأنفاق وكأنها أنفاق تهريب للأسلحة لسلطة "حماس". فـ"حماس" انقطعت، بما يشبه الالتزام من طرف واحد، عن إلقاء صواريخها "المحلية الصنع" على الجانب الإسرائيلي، ولم يتبيّن أن فيها صواريخ مستوردة من أي مصدر! كما أن "حماس" لم تكن هي التي اغتالت مسؤولها العسكري البارز في دبي محمود المبحوح مستخدمةً جوازات سفر أجنبية، بل إن كل البصمات تشير إلى الموساد الإسرائيلية.
ففي الوقت الذي سعت فيه "حماس" إلى إصلاح خلافها مع السلطة الفلسطينية في رام الله بقيادة رئيسها محمود عباس، جاءت الوقائع الإسرائيلية على الأرض لتُحدث فجوة في هذه المصالحات وإلقاء التّهم على الجانب الفلسطيني الآخر كجزء من لائحة المشاركين.
وإذا كان الوضع في "غزّة" لم يصل إلى حدّ الاتفاق النهائي بين الأخوة الفلسطينيين، فإنه في امتداداته المجاورة، لاسيما في المخيّمات الفلسطينية، يهدّد الوفاق الفلسطيني المُعَوَّل عليه في المفاوضات القائمة بين "فتح" و"حماس" في القاهرة بالإنشقاق مُجدّدًا، تارةً بإشغال القضية وأصحابها في سياسة الاستيطان الزاحفة بـ"باطونها المسلّح" على أيدي المستوطنين الإسرائيليين، وطورًا بمخطّطات حكّامها الذين يصمّون آذانهم للدعوات الدولية المنادية بوقف الاستيطان تمهيدًا للعودة إلى طاولة المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
وليس ما ينمّ في التصرفات الإسرائيلية المستهترة بالحقوق والقرارات الدولية أنها تأبه للسلام، بل إن ما يجري على الأرض يؤكّد العزم على تكريس الاحتلال، سواء في الأراضي الفلسطينية أو في المخيّمات في لبنان.
فعلى الرغم من تجاهل الحكومة الإسرائيلية لمبادرة السلام العربية التي طرحها خادم الحرمين الشريفين في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، وكرّستها قمة الرياض لاحقًا، فإن "حق العودة" الوارد فيها يكاد يكون حرفًا ساقطًا وميتًا في مفهوم الدولة العبرية والتي تسعى اليوم إلى إشعال نار الفتنة في المخيّمات الفلسطينية في لبنان، لاسيما في مخيّم عين الحلوة، على قاعدة تصفية القضية داخل أرضها وأراضي غيرها. وما الحوادث الأخيرة المتكرّرة في "عين الحلوة" إلا الوجه الآخر لفتنة عجزت عنها إسرائيل للإيقاع بين المسلمين في لبنان لتحاول استعاضتها على أرض لبنانية خارج سلطة الدولة.
إن دخول عناصر من "عصبة الأنصار" المحسوبة على "تنظيم القاعدة" يؤكّد هذا المنحى الفلسطينيّ "العباءة" والمذهبيّ "المباءة" لإيقاظ فتنة على تماس الجنوب الذي يتعايش فيه السُنّة والشيعة في وئام وسلام.
إن عودة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية إلى استخدام عملاء "القاعدة" في المخيّمات في محاولة لإضعاف الاستقرار داخل لبنان هي خطوة يائسة للتعويض عن فشلها الذريع في تكوين شبكة تجسّس جديدة بعدما اكتشفت الأجهزة الأمنية عندنا كل شبكاتها تقريبًا وشُلّ منها ما تبقّى، بدليل غياب الطائرة التجسّسية "كام" بلا طيّار التي كانت تُزوّد وتتزوَّد من هؤلاء العملاء بالمعلومات الأمنية، فضلاً عن الأجهزة المنصوبة على حدودنا الجنوبية.
صحيح أن الفتنة بدأت من واقع المخيّمات المتداخل سنة 1975 وكادت تطيح الطبعة اللبنانية النموذجية للعيش الواحد بكل طوائفها ومذاهبها وأطيافها لإحلال اللاجئين وترحيل المسيحيين، إلا أنها، هذه المرة، تحاول أن تنقل "فيروس" المذهبية المصطنع إلى أرض لبنان، وهو أمر لا بد من التنبّه منه في ظل تواجد أغراب داخل المخيّمات لا يمتّون إلى القضية الفلسطينية إلا بالشعار.
ولقد حذّر رئيس السلطة الفلسطينة بنفسه، قبل أن يحذّر مسؤولون عرب، من مخيّم "نهر بارد" جديد في مخيّم "عين الحلوة"، نظرًا لتلكّؤ السلطة الحالية في رام الله عن تعيين مسؤولين قادرين على تلافي محظور الفتنة.
وإزاء هذا الوضع الموقوت بقنبلته هذه القابلة للتفجير، أفلا يستحقّ لبنان دعوة الجامعة العربية إلى اجتماع، وإذا اقتضى قمة عربية، لبحث واقع المخيّمات في لبنان ووضع حدّ للتخلّي عن هذه القضية ورميها على عاتق اللبنانيين؟!
وإن الحكومة اللبنانية، بما يتهدّد السلم الأهلي، الذي يمكن أن يُحدثه مثل هذه المحاولات "الفتنوية"، مدعوة إلى الاجتماع فورًا لمعالجة هذه العوامل الخطيرة، وليس ذيولها بعد أن تقع الوقيعة. إذ آن لنا أن نطوّق الحقول المتفجّرة قبل أن تمتد نارها إلينا!
فعينٌ على "غزّة"... وأخرى على مخيّمات لبنان...