'حليب التين' لسامية عيسى: الجسد بطاقة الهروب من المخيم

'صديقة' من زوجة شهيد لبائعة هوى في دبي فمهاجرة الى اسكندنافيا
حسام الدين محمد

'الرغبة في الصراخ راودتها مرارا'. هكذا تبدأ حكاية 'صديقة' بطلة 'حليب التين' للكاتبة الفلسطينية سامية عيسى وبعد عقود طويلة من رواية 'رجال تحت الشمس' لغسان كنفاني، يبدو انها تستعيد سؤالا أرق الفلسطيني منذ النكبة: كيف نخرج من المتاهة؟ لكن النساء هنا، هنّ اللواتي يحملن عبء السؤال والجواب.
تقوم الرواية على تداعيات 'صديقة' التي تتذكر تفاصيل قصتها فيما هي على متن طائرة تأخذها الى اسكندنافيا.
تبدأ الرواية سردها بفجاجة وقسوة وجرأة عن علاقة غريبة ناشئة بين شخصين لا يعرفان بعضهما بعضا، تبدأ بسماع تأوه جنسي لامرأة في المرحاض العمومي لمخيم بائس في جنوب لبنان يدعى 'اوزو'. المرأة هي فاطمة المرأة الخمسينية التي اكتشفت فجأة لذة الجنس التي لم تعرفها من قبل رغم انها صارت جدة، اما الرجل فهو ركاد، رئيس اللجنة الشعبية في المخيم.
هذه الحادثة الغريبة لاستيقاظ الاحاسيس الجنسية بين طرفين غير متناسبين ارادت لها الكاتبة ان تكون في مكان بشع، في رغبة واضحة، على ما يبدو، لتمزيق اكاذيب هائلة يعيشها لاجئو المخيم والفلسطينيون عموما فيما تسميه هي 'تزحزح القناع'.
الشعور الجنسي لدى بطلتيها فاطمة وصديقة، هو دليل على وجود الحياة في شخص او مكان، وهو وسيلة الكاتبة لهدم جدران تبعد الناس عن واقعهم الانساني الاساسي والبسيط، باسم قضايا كبرى يتم استخدامها، مرارا وتكرارا، لسلب انسانيتهم. اكتشاف فاطمة لجسدها بعد وفاة زوجها، هو اعادة الانساني في فاطمة والذي تم استلابه على يد مجتمعها كله.

الخروج

فاطمة التي قضت عمرها وحيدة تسير مطأطأة الرأس لا تشعر بنفسها ولا بجسدها، كما تقول الكاتبة، لا تلبث بعد هذه الحادثة البسيطة ان تتعرض لتحول في شخصيتها فتلفت نظر رجل آخر في المخيم (ابو علي) وتبدأ قصة حب في الوقت الضائع من حياتهما.
واذا كانت الرواية بدأت بحكاية فاطمة واتبعتها بحكاية ركاد الذي جمع الأسلحة خلال اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان ثم باعها لتجار السلاح، فان الحكاية المركزية الأهم فيها هي حكاية 'صديقة' زوجة ابن فاطمة الشهيد احمد، والتي قررت الهرب من المخيم والتفتيش عن حياة أخرى تاركة اطفالها الثلاثة مع فاطمة.
تقدم الرواية صورة شديدة القتامة عن حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بحيث لا يبدو ان بصيص الأمل الوحيد يكمن في الرغبة المجردة في الخروج من المخيم بأي طريقة وبأي ثمن. الخروج من الفقر المدقع الذي يطحن العائلات وخصوصا النساء مثل 'صديقة'، اللاتي استشهد ازواجهن، والخروج من استغلال مسؤولي المنظمات القتلة والفاسدين لظروف بؤس النساء لاستغلالهن جنسيا.
فعل فاطمة هو اكتشاف للجسد، لكنه ايضا خروج نفسي من المخيم وتعال عليه وعلى ظروفه المقيتة المقرفة، تقوم من خلاله بتحويل المكان المقرف المليء بقاذورات الجميع، الى مطهر خاص، ومصعد تكسر فيه القيود المحيطة والاثقال التي تنهكها.
واذا كان خروج فاطمة، هو فعل نفسي تصعيدي، فان خروج 'صديقة' الفعلي من المخيم يشكل لحظة جديدة اعلى في حياة الفلسطينية، اما المشابهة الاضطرارية التي نجدها مع رجال فلسطينيي كنفاني في محاولتهم الهروب الى الكويت، ففيها ما فيها من الادانة القاسية للعالم وللذات معا، ناهيك عن الامكانيات الدلالية النقدية التي تفتحها ادبيا.
بما يشبه معجزة صغيرة تطير 'صديقة' الى دبي للعمل مصففة شعر عند نوال التي رحلت الى هناك بعد مجزرة صبرا وشاتيلا بعد ان مات زوجها وابناؤها فيها.
لا تلبث 'صديقة' طويلا قبل ان تكتشف ان صالون نوال ليس الا واجهة لتقديم الاجساد الجديدة لطالبيها الاغنياء، وهكذا تعود دائرة المتاهة للانغلاق مرة اخرى، الهارب من الموت والقتل والظلم، مثل نوال، يصبح مسننا في آلة لاستغلال 'صديقة' وغيرها، من امثاله.
تأخذ نوال 'صديقة' الى سهرة في بيت احد زبائنها الاثيرين، جاسم، وحين تكتشف 'صديقة'، التي اصبح اسمها 'هيام'، المكيدة، تنقلب على نوال مستخدمة جاسم نفسه الذي فُتن بها. تقول صديقة لنفسها 'لن يشكل جاسم سوى فرق طفيف. مجهول من نوع مختلف. أقله انه أقل قسوة من دفتر شيكات ابو طارق' (المسؤول الفلسطيني الذي ساومها على جسدها مقابل راتب زوجها الشهيد).

مثل الحيوانة!

تحول التجربة 'صديقة' الى مومس في دبي وتلخص هي ذلك في قولها 'مثل الحيوانة كنت وسأبقى'، غير ان هذه التجربة تفتح عينيها اكثر على ان الغريزة اقرب الى الحقيقة، وان المدينة التي يتشدق ساكنوها بأنها مزيفة اكثر حقيقية من غيرها وانها 'كشفت عورات الكثير من المدن حين تجرأت ان تصنع نفسها واحتضنت القادمين من مدن فشلوا في ان يبقوها جميلة وجديدة'.
وكما اكتشفت فاطمة لذة الجسد صدفة، تكتشف 'صديقة' جسدها، فتتوازى حكاية المرأتين، اللتين يجمعهما المخيم والابن الشهيد والاطفال. يلعب الجسد (الوطن الأول للانسان) اذن دورا محررا وكاشفا صاعقا للاكاذيب التي تحيط حياة الناس، بما فيها سياسية كانت ام اجتماعية، فيتساوى حامل يافطة الوطن والثورة الذي يستعين بها ليغتصب نساء الشهداء، مع صاحبة صالون تزيين، تبيع جسد ابنة بلدها الفلسطينية لمن يدفع اكثر.
لكن اكتشاف الجسد لا يأتي في ظروف طبيعية، فلا شيء طبيعيا في حياة الفلسطيني المرمي في عراء الانسانية البشع. فاطمة لا تجد مكانا تكتشف فيه المتعة غير المرحاض العام للمخيم، علامة البؤس الاقصى وانسحاق خصوصية الفرد، بينما تكتشف 'صديقة' جسدها وهي في حالة استسلام لمكيدة، لرجل يشتريها وهي لا خيار لديها سوى ان تبيع.
تتكرر علامات اللجوء للمرحاض في الرواية لتبعث مدلولات جديدة، فهو المكان الذي تختبئ فيه صديقة بعد تجربة جنسية اولى مع الشاب الذي احبته ثم تزوجته، وهو الحقل الذي يتخصص فيه ابنها بعد هجرته الى اوروبا، وهو المكان الذي تكتشف لاحقا في دبي علاقته بخصوصية الانسان التي لا يشارك فيها احدا. انه مكان افراغ للاوساخ، لكنه ايضا مكان لممارسة الغرائز الفردية، وهو ايضا الخلاء الذي يسمح بالهرب من العائلة والحي والمخيم والناس، ويحمي ما بقي من فردية الانسان التي لم يتمكن المحيط من السيطرة عليها.
كما تتوازى العلاقة بين فاطمة، العالقة في بؤس المخيم، و' صديقة' التي تحولت الى مومس في دبي، تتوازى العلاقة بين مرحاض المخيم العمومي المقرف، ومرحاض بيت 'صديقة' (الأشبه بقصر صغير من قصور الف ليلة وليلة)، مثل انتقام من كل الماضي 'العمومي' الذي يخنق الفرد.

النسوان اصل البلا!

تنتهي هذه المقارنة بغضبة ركاد، 'مسؤول اللجنة الشعبية في المخيم'، الذي نفد صبره بعد انتظار عودة امرأة التأوهات الجنسية المجهولة شهرين، ثم فقدانه صوابه وتحطيمه لمرحاض النساء في المخيم وهو يصيح: 'مخيم لمم! مخيم عرصات! النسوان أصل البلا!'.
فعلة ركاد، هي احدى بؤر التناقض التي تكشفها الرواية، فتهديم المكان الذي اكتشفت فيه فاطمة اللذة، من قبل مسؤول، يكاد يكون نموذجا للفساد والغباء، في ظل جهل سكان المخيم لسبب ما فعله، فعلة ذات دلالات عديدة.
اولى هذه الدلالات، عدم وجود خصوصية لأي كان في المخيم، وهو اقصى ما يمكن للبؤس ان يفعله بالانسان، وهناك دلالة القمع القادر على حرمان الناس حتى من مكان الخلاء، دون اعتراض من احد او حاجة من الهادم لابداء السبب، كل ذلك مرفوق بالشتائم للسكان الخانعين جميعا، وللنساء خصوصا.
تكشف الرواية الى الخيارات القليلة التي تمتلكها المرأة الفلسطينية، فحتى الاستشهاد، بمعنى كان او من دون معنى، هو خيار متوفر للرجل، وليس متوفرا للمرأة، بل ان بقاءها على قيد الحياة هو طريقة اسوأ لدفع ثمن الآخرين الذين جللتهم البطولة ونسيهم الباقون. فالاستشهاد، على نبله وعلو مقاصده، يبقى خيارا كسيحا عندما تترك المرأة والاطفال لتجابه ذئاب الحياة وحدها.
ورغم النافذة التي تفتحها 'صديقة' على انسانيتها، من خلال علاقتها السريعة العابرة بوليد اليافاوي، المدرس والشاعر، فانها، في النهاية، لا تجد خيارا سوى الهجرة الى الدنمارك، لاحقة بأبنائها، ثم تلحق بها فاطمة.
'حليب التين'، بأكثر من طريقة، هي رواية المتاهة الفلسطينية المتجددة، وتعبير عن الانغلاق واليأس الذي يعيشه الفلسطينيون.
بوضعها اليد على مكامن الألم والجرح، تسأل الرواية اصعب الأسئلة وأكثرها حدة وجرأة منتقدة الفلسطينيين انفسهم الذين جعلوا من النكبة جدارا يخنقهم.
ابتداء الرواية من الجسد، الذي لا يكذب في حاجاته ولا في آلامه، نقطة اساسية للاجابة على بعض هذه الاسئلة الممضّة والمؤرقة.
نغمط رواية 'حليب التين' حقها، لو اسدينا مدائح لجرأتها، في اختيار الشخصيات، والمواضيع، فحسب، فالعمل، لولا بعض هنات بسيطات، وخصوصا بعض الافكار التي اجرتها على لساني او عقلي بطلتيها، التي لا تستقيم مع وضعهما الفكري، مكتمل ادبيا، ويجب ان يوضع في مكان الصدارة بين اهم الروايات العربية التي صدرت هذا العام.
ناقد من اسرة 'القدس العربي'

» التين يسكن السعال ويعالج الأورام
» الهروب الى التصعيد
» نابلس- التوجيه السياسي والمخابرات العامة يواصلان دورة "لغة الجسد"
» التوجيه السياسي في نابلس والمخابرات العامة يواصلان دورة لغة الجسد
» الله اكبر الهروب الامريكي الكبيرمن العراق قد أنجز كما بشرنا /محمد أسعد بيوض التميمي