صلاح صلاح: الفرص الضائعة.. لا تضيع فلسطين

بلدان عدة زارها صلاح صلاح. جميلة بطبيعتها، حضارية بمظاهرها، لكن مشهد الغروب من بحيرة طبريا يبقى الاجمل. في قريته «الغوير ابو شوشة» القريبة من سهل طبريا تعلم الدبكة والرقصات الشعبية... واجادها صغيرا ثم كبيرا.
نشط والده في «ثورة القسام» الشهيرة ووشى به الصهاينة لسلطات الانتداب البريطاني التي اعتقلته. انهك التعذيب جسد الوالد وتوفي بعد ايام من اطلاق سراحه.
حاول الطفل صلاح الانتقام على طريقته. دخل مستعمرة يهودية. اتلف مزروعاتها. لم تردعه خيزرانة عمه من الاستمرار في مناهضة الوجود الصهيوني. حماسه للنضال اوقعه ضحية محتال اقنعه بشراء مسدس لقاء عشرة قروش. ذهبت القروش ولم يحضر المسدس حتى الآن.
في نكبة 1948 قاوم صلاح مع اهل قريته العصابات الصهيونية، حتى اصبح البقاء مستحيلا. امواج النازحين تتجمع كراوفد النهر في زحف بشري باتجاه سوريا ولبنان.
سنوات مضنية عاشها صلاح صلاح في مخيم عين الحلوة، غابت الماء والكهرباء عن البيوت، فرضت الدولة اللبنانية على النازحين العيش في بيوت من تنك ومنعتهم من سقف منازلهم بالاسمنت. ساعات الدراسة كان يقضيها صلاح صلاح ورفاقه تحت مصابيح الشارع. لم تحبطه اجواء الهزيمة. نظم لزملائه في المدرسة جولات عدة على المخيم. تعرفوا خلالها على واقعه. شارك رفاقه بتوزيع مجلة «الثأر» قبل ان يتعرف الى الجهة التي تصدرها. في لقائه الاول مع محسن ابراهيم في صيدا في العام 1953، تبدأ رحلته مع حركة القوميين العرب.
يذكر أول لقاء له مع جورج حبش في بيت محسن ابراهيم («ابو خالد»)، عام 1954، فقد قال له حبش يومها «كأنك تلبس جاكيت ابنك». مشهد الفقر عند ابناء المخيمات فاق توقعات «الحكيم». «شتاء كامل كنا نمضيه من دون كنزة صوفية» يقول صلاح صلاح. تلك السترة كان قد اعطاه اياها «ابو خالد» يوم شاهده يرتعش من البرد في نهار شتائي قارس.
يفتح صلاح صلاح السجل العسكري لحركة القوميين العسكري ويقرأ اوراقا مازالت مطوية حتى الان. يتحدث عن دراسة اعدها حول حرب العصابات ارسلت بعدها الحركة متطوعين الى مصر وسوريا للتدرب على تطبيقات هذه الحرب. يضيء على مشاركته في تفجير مركز الدراسات البريطانية في «شملان» في الجبل... ردا على «العدوان الثلاثي» على مصر في العام 1956.
خبر صلاح صلاح المعتقلات، وصارت يداه كما أذناه تتناغم ورنين الاصفاد. البداية كانت في مظاهرة صيدا ضد سياسة الاحلاف. اطلاق سراحه لم يوقف مضايقة الاجهزة الامنية له. طلبت منه قيادة التنظيم الانتقال الى الشمال حرصا على سلامته. عينته القيادة مسؤولا عن الفروع الحزبية هناك. لا يجد صلاح صلاح صعوبة تماثل صعوبة تلك المرحلة. يتوارى في النهار، ويخرج في الليل على دراجة هوائية، لمتابعة الشؤون التنظيمية. مبارزته مع الخطر لم تعد في مصلحته. تسلل من وراء الحدود الى دمشق. احداث سنة 1958 اتاحت له العودة الى طرابلس في رحلة امتدت يومين سلك خلالها وديانا وعرة حاملا السلاح للثوار في المدينة.
اطاح عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي في العراق. تحالف في انقلابه مع ضباط من حركة القوميين العرب. خلاف يظهر بين الطرفين. يتحالف عبد الكريم قاسم مع الشيوعيين. يقرر القوميون العرب القيام بانقلاب مضاد. يتحول صلاح صلاح الى سائق شاحنة على الحدود السورية العراقية تنقل السلاح سرا الى مخططي الانقلاب الذي لم يتم.
اسسس الفلسطينيون في حركة القوميين العرب تنظيما خاصا بهم. رفعوا الكفاح المسلح شعارا مركزيا له. المهمة اشرف عليها الدكتور وديع حداد، حتى خروج جورج حبش من سجنه في دمشق. يعين صلاح صلاح مسؤولا للتدريب. يبدأ المتدربون بالانتقال سرا الى مصر من دون علم السلطات اللبنانية.
اكتشفت «الشعبة الثانية» في الجيش اللبناني مجموعة منهم. وسرعان ما تم الوصول الى صلاح صلاح. ثلاثة اسابيع امضاها في ثكنة الحلو تحت لهيب السياط. لم يعترف بمسؤوليته الا بعد ان اصر عليه زميله في الاعتقال «ابو ماهر اليماني». خاف معذبوه ان يموت داخل السجن، فرموه ليلا قرب مكتب منظمة التحرير في كورنيش المزرعة.
عملت قيادات فلسطينية، على انشاء جبهة مشتركة للكفاح المسلح. افشلت حركة فتح المشروع قبل الاجتماع النهائي لاعلان المشروع. اتفق الاخرون على صيغة جبهوية جديدة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» مع احتفاظ كل طرف ببرنامجه الخاص. «الثورة الفلسطينية ضحية الفرص الضائعة» يقول صلاح.
تمكن وديع حداد من تحرير جورج حبش، من سجنه في دمشق وتهريبه الى لبنان. حاول «الحكيم» لملمة اوضاع «الجبهة» المتداعية والدخول في حوار مع كل الاطراف. وقف صلاح صلاح الى جانب «الحكيم»، وحاول تقليل ما امكن من عدد المنشقين. «النيات كانت مبيته للانشقاق، قبل مؤتمر العام 1969 ومدعومة من اليمين الفلسطيني»، يقول صلاح صلاح و«لا علاقة لها بعلاقات «الجبهة الشعبية» مع الانظمة العربية كما ادعى المنشقون».
يطل صلاح صلاح على مشهد الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982. يستعيد نقاشات بين القيادات الفلسطنية واللبنانية في الساعات والأيام الأولى للحرب. غموض المواقف عند حركة «فتح» ظهرت نتائجه في الميدان. باغتت «فتح» حلفاءها بالانسحاب السريع الى ما وراء نهر الاولي ولم تستجب لنصيحة السوفيات بالحفاظ على جسم المقاومة في ارض المعركة جنوب الأولي. يطرح جورج حبش، مع القيادات الوطنية فكرة تشكيل جبهة مقاومة وطنية لبنانية، تنضوي «الجبهة الشعبية» تحت رايتها وتضع كل امكاناتها بتصرفها... وفي هذا السياق نفذت «الجبهة» عشرات العمليات غير المعلنة ضد قوات الاحتلال يقول صلاح صلاح.
بعد خروج «منظمة التحرير» من بيروت، اوقفت الدولة اللبنانية في عهد أمين الجميل، البحث في ملف الفلسطينيين المقيمين في لبنان، ونصح قائد جهاز امن الدولة الرائد صلاح منصور، صلاح صلاح ورفاقه بمغادرة لبنان تحسبا لاستهدافهم من «الموساد» الاسرائيلي، رافعا مسؤولية لبنان عن حمايتهم، لكن صلاح صلاح، اصر على البقاء متجاوزا محاولة الاغتيال الغامضة التي تعرض لها رفيقه القيادي الفلسطيني توفيق الصفدي.
عشرة ايام امضاها صلاح صلاح، في مبنى وزارة الصحة اللبنانية في المتحف معصوب العينين ومشدودا الى كرسي من دون ظهر. اعتقله الجيش اللبناني، وحقق معه اشخاص غير لبنانيين حول مخازن الاسلحة التي تركتها المقاومة الفلسطينية في بيروت واسماء المقاتلين الذين ظلوا سرا في بيروت.
رفض المساومة على اطلاق سراحه مقابل خروجه نهائيا من لبنان. تمسك بتطبيق القانون، واصر على تقديمه للمحاكمة في حال وجود تهمة ما ضده. وصلت الضغوط السياسية والقضائية الى طريق المسدود... «لكن تمنيات الرفاق في الخارج» جعلت صلاح صلاح يوقع على وثيقة غادر بموجبها بارادته، ليعود الى لبنان اثناء «حرب المخيمات» بين حركة «امل» والفلسطينيين.
لم يتقاعد صلاح صلاح يوما من العمل السياسي. ساهم بامكاناته في رأب الصدع داخل «الجبهة الشعبية» ونجح مع آخرين في ترتيب مؤتمر انتج قيادة جديدة. هويته السياسية النضالية لم تجعله يغادر العمل الاجتماعي وكانت له تجربة مميزة في «صندوق العامل الفلسطيني» الذي اوجد حلولا لمشاكل العمال الفلسطينيين. يستذكر تجربته مع المناضل الفلسطيني التاريخي ابو ماهر اليماني في تشكيل الاتحاد العام لعمال فلسطين.
مازال صلاح صلاح حارسا لبوابة فلسطين. يدعو الى مقاومة التوطين. يخاف من المحاولات الجارية لدفن قضية فلسطين واعتبارها فقط قضية لاجئين ويرسم علامات استفهام كبيرة حول دور بعض المنظمات الانسانية في تكريس هذا المفهوم، كما يرسم علامات استفهام حول تجنيس بعض الفلسطينيين وتوطينهم في الاراضي اللبنانية.