مجلس النوّاب اللبناني: مع فلسطين... ضد الفلسطينيّين

انقسم مجلس النواب أمس طائفياً. الجميع أعلن تأييده لحقوق الفلسطينيين، ثم دخلت الـ«لكن» اللعينة إلى جمل النواب المسيحيين لتطلب تأجيلاً في بحث هذا المطلب، بتنسيق أداره سامي الجميّل وإبراهيم كنعان وأنطوان زهرا. فوقف وليد جنبلاط ليقول: «لا يوجد أغبى من اليمين اللبناني»

«كل يمين في العالم غبيّ، اليمين اللبناني قلق، نفس الكلام منسمعو من 62 سنة. بدّكم تأجّلوا أجّلوا. بس إذا بدّكم تأجّلوا هذه المرة، فهذا تأجيل للمشكلة. حصار غزة كان عنوانه إسقاط «حماس»، لكنها انتصرت وقويت والحمد لله أنها انتصرت. وفي لبنان، يؤدي تداعي السلطة الفلسطينية الى نشوء حركات أصولية في المخيمات وتهجير الفلسطيني، بس تطلع حركات أصولية بالمخيمات، إنتو شو؟ بتخسروا؟ إنتو ما بتخسروا شي، منبعت الجيش ليموت، ومنرجع منوعد بالإعمار. هل هيدا هو المطلوب؟ ما شفت أغبى من اليمين اللبناني، ما شفت أغبى من اليمين اللبناني».
بهذه الكلمات أعاد رئيس كتلة اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط أمام الهيئة التشريعية لمجلس النواب أمس، تكرار جملته الأخيرة مرتيّن كمن يؤكّد ما قاله لمن لم يسمعها من المرة الأولى، ولينتقد «اليمين اللبناني» الذي تخوّف من أربعة اقتراحات قوانين «معجلة مكررة» قدمتها كتلة اللقاء الديموقراطي للتصويت عليها لتعديل القوانين التي تضر بالحياة الاجتماعية والإنسانية اليومية للفلسطينيين في لبنان.
جنبلاط قال كلمته هذه ومشى، بعدما سمع ما يكفيه من كلمات «اليمين» كما سمّاهم، رداً على اقتراحات القوانين المقدمة. ثم قال لـ«الأخبار» مساءً، إنه كان يتوقّع ردّ الفعل هذا، «ولكن ليس إلى هذه الدرجة من الغباء. هذا غباء تاريخي. هو ليس غباءً مسيحياً، لأن هناك طبقة من المسيحيين ناضلت منذ ما قبل الحركة الوطنيّة عن القضايا العربيّة». وأضاف جنبلاط إن رئيس الحكومة سعد الحريري، سأله: ماذا تريد أن تفعل؟ «ففهمت أنه يريد التأجيل حتى لا يظهر الانقسام مسيحياً إسلامياً. لكن عندما رأيت سامي الجميّل يجلس قرب النواب العونيين ويعبّئهم فهمت إلى أين وصلنا». لكن جنبلاط رأى أن موقف الحريري كان ممتازاً، كذلك موقف الرئيس نبيه بري وكتلة الوفاء للمقاومة، «على أمل أن يستمر هذا التوافق ولا ينفجر في أيلول، لأن هناك من يريد أن يُفجّره».
وعند سؤال جنبلاط عن إمكان متابعة هذه الاقتراحات في اللجان النيابيّة، أجاب بأن «اللجان بلا طعمة. يجب أن يكون هناك قرار سياسي، وإلا فإن الوضع سينفجر». وأكّد جنبلاط أن الحق الفلسطيني سينتصر لا محالة، لكن ما حصل أكّد أن «لبنان أكبر مؤيّد للحق الفلسطيني هو كذبة».
إذاً، انقسم مجلس النواب أمس انقساماً «عمودياً» بين المسلمين والمسيحيين، في مشهد توقّع اللبنانيّون أن يكون قد تخطاه. وفشل النواب في فصل الجانب الاجتماعي عن الجانب السياسي، فتمترسوا وراء شعارات قديمة.
هي أربعة اقتراحات كان يمكنها أن تقرّ لو لم يخيّم «شبح التوطين» على النواب المعترضين. شبح غريب أمره، لا يحضر ولا يجري استحضاره إلا عند كل موضوع يتعلق بحياة الفلسطينيين وبتحسين أوضاعهم في المخيمات.
هكذا، احتدم النقاش في قاعة المجلس بعدما كانت أجواء النقاشات قد خفّت وتيرتها بعد إقرار المجلس النيابي عدداً من مشاريع القوانين المقدمة من الحكومة، أبرزها مشروع قانون تعديل الفقرة 2 من المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية ومشروع قانون إعطاء سلفة لتعويض أصحاب الحقوق المتوجبة للتعاونيات معدلاً والسماح للناجحين في مباراة محصورة من رتبة مفتش في الأمن العام بالخضوع لدورة.
دخل النائب وليد جنبلاط الى القاعة بالتزامن مع طرح المشاريع التي ستقدمها كتلته. اقتراح قانون معجل مكرّر يرمي الى تعديل المادة 9 من قانون الضمان الاجتماعي: تعدل الفقرة الثالثة من المادة 9 على أن يعامل اللاجئ الفلسطيني المقيم في لبنان إقامة قانونية معاملة المواطن اللبناني لجهة تعويض نهاية الخدمة والعناية الطبية عن الأضرار الناتجة من الحوادث وطوارئ العمل فقط، من قبل وزارة الصحة والمستشفيات الحكومية وسائر المؤسسات الضامنة العامة والخاصة». جملة كان إيقاعها ثقيلاً على أذن بعض الحضور. «مصدق». يحسم الرئيس بري النتيجة بعد التصويت على صفة المعجل للقانون.
الكتل النيابية الكبرى صوّتت على المشروع إلا المسيحية منها، لحظات ويستفيق المعترضون من الصدمة، ينظّمون صفوفهم ليبدأ النائب إبراهيم كنعان كلمته بإظهار تأييده لـ«الحقوق المدنية للفلسطينيين، لكن نرى أن هناك قانوناً يتعلق باكتساب الفلسطينيين الحقوق العينية العقارية، هذا الموضوع بحاجة الى قانون متجانس يشمل كل حقوقهم، لكي تأتي كل هذه القوانين في سلة واحدة».
أما «الشيخ» سامي الجميّل فتمنى أن تحوّل هذه القوانين الى «لجان حقوق الإنسان في المجلس النيابي لدرسها». هنا ينفع التذكير بأن «هيومن رايتس ووتش» في تقريرها عام 2009 طلبت من الحكومة اللبنانية أن تعمل على تعديل التشريعات بحيث تُعطي الفلسطينيين حقوقهم.

رئيس الحكومة سعد الحريري طلب أن ينظر الى موضوع التعديلات من منحى «إنساني، أو عروبي خصوصاً أن فلسطين هي القضية المركزيّة للأمة العربية، ولينظر الى هذه القوانين بعيداً عن التوجه الطائفي أو المذهبي، لأننا إذا أخذناها من منحى طائفي فسيذهب الموضوع الى مكان آخر، وإذا أخذناها من المنحى الإنساني العروبي فإننا سننتصر كلبنانيين».
وتر الإنسانية عزف الجميع عليه، وكان أكثر من أجاد اللعب المعترضون على هذه القوانين. «نحن لسنا ضد الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، لكن يجب أن ندرس الموضوع» يقول النائب نعمة الله أبي نصر. أما الوزير ميشال فرعون فرأى أن «هذه المسألة خطيرة، هناك إجماع على إعطاء الفلسطينيين الحقوق المدنية، لكن الإشكال هو بصفة الاستعجال».
أمّا آلان عون فقال: «لا يمكننا أن نحرم أي مقيم على الأراضي اللبنانية من حقوقه الإنسانية، لا يمكننا أن ننسى الوجه الحضاري للبنان، لا يمكننا أن ننكر بؤس وآلام الشعب الفلسطيني، لكن ما بدنا نسلق الموضوع، خلّونا نتفق وما نعمل أزمة سياسية، وما تمرروا الموضوع من خلال التصويت العددي».
زميله نبيل نقولا قرر أن يرمي الكرة في الملعب الدولي، مطالباً النواب بالتوجه إليه لأنه «هو أساس المشكلة». أما شيخ المجلس سامي الجميّل فقد رأى أن المجلس على وشك «ارتكاب خطأ، نحن علينا أن ننظر الى هذه القوانين سلة واحدة، يعني كأن الأمر يتعلق بالتوطين، إذا وصلنا الى هذه المرحلة، إقرار هذه القوانين يعد ذلك تعديلاً دستورياً للتوطين، إذا كانت هذه هي الطريقة التي نتعاطى بها بعضنا مع بعض».
كان النواب المعترضون يقرّون بضرورة إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، لكن شكّلت الجملة التي كانت تتبع كلمة «ولكن» في خطابهم، نقطة التحول التي طيّرت هذه القوانين، وفي حال عدم استعمالها كانوا يستبدلونها بـ«بس إنو». «بس إنو هيك في استعجال بإقرار الحقوق أنا مع مسؤوليتنا الوطنية والتزامنا بحقوق الشعب الفلسطيني، ولكن من خلال مشروع قانون تقدمه الحكومة، وأنا ضد العجلة» يقول النائب جورج عدوان.
انقسم المجلس بين نواب معارضين للقانون ومؤيّدين له. الانقسامات الطائفية ظهرت واضحة، حتى بين الكتل النيابية الواحدة، فالنائب عاطف مجدلاني مثلاً اعترض على المشروع برغم من تصويت كتلته إيجاباً.
بالطبع، فإن مقاربة الملف الفلسطيني في لبنان يجب أ0ن يتأنى فيها النواب المعترضون، فالعجلة فيها ندامة والتأني فيه سلامة، وكأنهم نسوا أن القوانين التي يتعاطون فيها متعلقة بحياة 500 ألف فلسطيني يعيشون في المخيّمات، فبالنسبة إليهم، الذي صبر «62 عاماً لن يضيره لو انتظر شهراً أو أسبوعين لدراسة هذه القوانين بتأنٍّ»، يقول إبراهيم كنعان. استطاع الفلسطيني بقدرة قادر أن يوحّد الشارع المسيحي الذي كان منقسماً على نفسه. نسّق النائب سامي الجميّل الخطوات التي يجب اتخاذها مع نواب كتلة التغيير والإصلاح، فيما اقترح النائب زهرا أن ينسحب النواب المعترضون من المجلس كي لا يُسجّل في محضر المجلس أنهم كانوا حاضرين إذا ما أُقرّت هذه المشاريع.
النواب المؤيدون لهذه القوانين كانت لهم وجهة نظرهم الخاصة وحاولوا إقناع زملائهم بأنها تصب في مصلحة لبنان أولاً؛ كما تسهم في تغيير صورة لبنان أمام المحافل الدولية وخصوصاً أن عدداً من الجمعيات الدولية هاجمت لبنان لأنها تعده من الدول التي تنتهك حقوق الانسان في ما يتعلق بموضوع اللاجئ الفلسطيني، لكن كل هذه المحاولات لم تنفع. «لا يجوز أن تكون إسرائيل أفضل من لبنان من ناحية إعطائها الحقوق للفلسطينيين بحسب دراسة أجرتها صحيفة يديعوت أحرونوت» يقول النائب عقاب صقر. ربما ظن صقر أن هذه المقاربة ستدفع النواب للتصويت على القرارات الباقية، لكن «ما في حدا ما تندهي ما في حدا». هكذا، دارت السجالات وارتفعت وتيرة النقاشات بين النواب. النائب وليد جنبلاط كان هادئاً كعادته، رفع يده طالباً الإذن بالكلام. «ما علاقة التوطين بهذا الموضوع؟ نحن متفقون جميعاً على رفض التوطين، وننتظر أن تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة. منذ 62 عاماً ينتظر اللاجئ الفلسطيني أن نعطيه هذا الحق، فلنعطه إياه» يقول جنبلاط.
وجهة نظر وافقه عليها الحريري الذي قال إن الاقتراحات المقدمة مشكور عليها اللقاء الديموقراطي «ونحن مع إعطاء الحق لأي مواطن فلسطيني في الطبابة، وأن يعمل ما يريد، نحن نتفهم الهواجس، نحن ضد التوطين، ويجب ألا يأتينا كل يوم فحص دم إذا كنا ضد التوطين، ما يحكى ليس له علاقة بالتوطين، هناك مجموعة من الإعلاميين واللبنانيين ذاهبون الى غزة لفك الحصار، غداً سيأتي العالم لفك الحصار عن المخيّمات في بيروت، ولكن أتكلم على حقوق الفلسطينيين، يموت الأب والأولاد لا يعرفون ماذا يفعلون بالورثة؟ كيف يجرون حصر إرث، اذا كنا خائفين من التوطين، فنحن كلنا ضد التوطين، ونحن في الحكومة ومجلس النواب علينا أن ننظر الى وضع الفلسطينيين في المخيمات، هل نساعدهم بأن لا نعطيهم حقوقهم، إذا لم نعطهم حقوقهم حينها نكون قد استثمرنا بأكبر مشروع إرهاب ممكن أن يصبح أمامنا ورأينا ما حدث في نهر البارد. لدينا فرصة تاريخية لنصوّت على هذا القانون، وهناك أناس محتاجون ونحن أكثر الشعوب تمدّناً. كيف نضع قانوناً للزواج المدني، وفي الوقت نفسه الفلسطيني لا نريد أن نعطيه حقوقه؟ هذا موضوع إنساني».
النواب المسيحيون اعترضوا على ما قيل، وطالبوا بإلغاء صفة المستعجل عن القانون. أما الوزير «المختصّ أو المهتم» كما مازحه بري، وائل ابو فاعور، فرأى «أن أخطر ما يحصل في هذا النقاش هو العودة الى الاصطفاف في الحرب اللبنانية، الفلسطيني لم يعد جزءاً من الصراع الداخلي، كل الشعب اللبناني ضد التوطين».
كلام رد عليه النائب جورج عدوان سريعاً معتبراً «ما في حدا ممكن يرجع الى ما قبل الحرب، الحرب الاهلية أصبحت إلى غير رجعة وأطمئن الجميع الى أن أي مقاربة ليست من هذه المنطلقات. ليس مسموحاً ألا يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، انطلاقاً من إنسانيتنا والتزاماً بقضيتهم، فضلاً عن وضع المخيمات. المطروح اليوم هو أن هذا الموضوع يجب أن يستحوذ على الإجماع».
بعدما احتدمت النقاشات بين النواب، توجّه الحريري صوب جنبلاط. وقفا جانباً، تحدثا وعاد كلٌ الى مكانه. كان النائب محمد رعد يهمس في هذا الوقت في أذن رئيس مجلس النواب، بينما كان عقاب صقر يتنقل بين النواب المسيحيين المعترضين. الاحاديث الجانبيّة أوحت بأن هذه المشاريع ستؤجل أو تحال الى اللجان المختصة. يرفع وليد جنبلاط يده، تهدأ القاعة لسماع كلمته يصف الرجل «اليمين اللبناني بالغبي» ويمشي.
جملة لم يعد أحد يستوعب من بعدها ما يجري. ينهي رئيس البرلمان الجلسة سريعاً بعدما قال إنه سيحيل «هذه الاقتراحات على اللجان، على أن تعود في مهلة أقصاها شهر الى الجلسة ثم ترفع الى الهيئة العامة».
كان هذا ختام النهار البرلماني الطويل الذي أقسم خلاله أعضاء المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء اليمين الدستورية أمام النواب.
من جهته وفي حديث مع «الأخبار» علّق النائب سامي الجميّل على كلام جنبلاط عن غباوة اليمين اللبناني بأنه «لا يستأهل أن يرد عليه».