إصلاح قطاع العدالة في مجتمعات ما بعد الصراع: الحالة الفلسطينية نموذجاً

إصلاح قطاع العدالة في مجتمعات ما بعد الصراع: الحالة الفلسطينية نموذجاً
صحيح أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم ينته بعد، وان الدولة الفلسطينية لم ترى النور بعد، وأن الاحتلال ما زال يشكل عقبة كبيرة في وجه عملية تطوير قطاع العدالة وسيادة القانون، إلا أنني استخدمت هذا التعبير لدراسة نموذج إصلاح قطاع العدالة في فلسطين بعد الضربات الموجعة التي تعرض لها أثناء انتفاضة الأقصى، والتي تشبه في بعض الأمور تلك الإصلاحات التي حدثت في قطاعات العدالة في مجتمعات ما بعد الصراع في أفغانستان، والبوسنة والهرسك، والسلفادور، وكوسوفو، وتيمور الشرقية. من ناحية أخرى استخدمت مصطلح ما بعد الصراع كجزء من التوجه الفلسطيني القائم نحو بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. ولعدم تمكني من الحصول على معلومات كافية عن الوضع الحالي لقطاع العدالة في قطاع غزة، بسبب الانقسام الفلسطيني الحاصل، والفرقة شبة الكاملة بين شطري الوطن، تستعرض هذه المقالة التنمية الحاصلة في القطاع في الضفة الغربية.
تستخدم الجهات الفاعلة في بناء أو إصلاح أو تطوير قطاع العدالة مصطلحات مختلفة للإشارة إلى برامجها في هذه المجالات مثل: 'إدارة العدالة'، أو 'الإصلاح القضائي'، أو 'الإصلاح القانوني'، أو 'إصلاح نظام العدالة'، أو 'إصلاح قطاع العدالة'، أو 'إصلاح سيادة القانون'. وعلى المستوى الدولي يوجد مصطلحان هما الإصلاح القضائي وهو عبارة عن مجموعة السياسات والتدخلات، والأنشطة التي تهدف إلى بناء أو إصلاح أنظمة العدالة في الدولة، والإصلاح القانوني الذي يشير إلى عملية إصلاح أو إعادة صياغة الأطر القانونية المنظمة للمجتمع. أما في الحالة الفلسطينية فنستخدم مصطلح إصلاح قطاع العدالة وسيادة القانون، وهو مصطلح يجمع بين المصطلحين السابقين.
في اعتقادي أن المهم في الأمر ليس المصطلح وإنما النهج المتبع في عملية الإصلاح. ويعتقد أنصار النهج الشمولي في الإصلاح أن أفضل نتائج عمليات إصلاح قطاع العدالة في مجتمعات ما بعد الصراع هي تلك التي اتبعت النهج الشمولي، الذي يتميز بعملية تطوير متوازنة بين أطراف قطاع العدالة قاطبة، مبنية على إستراتيجية متكاملة. وتشمل هذه العملية إصلاح وتطوير التشريعات لتعزيز الكفاءة والمساءلة والنزاهة واستقلال المؤسسات القضائية، بالتوازي مع إصلاح وتطوير عمل المحاكم، ووزارة العدل، والنيابة العامة، والشرطة، وإدارة السجون، ونقابة المحاميين، وديوان المظالم، ومؤسسات التعليم والتدريب القانوني، والآليات البديلة لتسوية المنازعات بهدف تخفيف العبء عن الشرطة، والنيابة، والمحاكم، وبطريقة لا تمس بسيادة القانون، هذا بالإضافة إلى تطوير آليات المساعدة القانونية، وعمل مؤسسات حقوق الإنسان. ولا يمكن أن يكون قطاع العدالة فعّالاً إلا بتطور كافة الفاعلين فيه بالتوازي، ولا يمكن أن تكون المحاكم قوية إذا كانت النيابة ضعيفة، ولا يمكن أن تكون النيابة قوية إذا كانت الشرطة ضعيفة...وهكذا.
ويتميز قطاع العدالة في حالات ما بعد الصراع بوجود فراغ قانوني، وتدمير البنية التحتية لقطاع العدالة، وبالأخص مراكز الشرطة، ومكاتب النيابة العامة، والمحاكم، يضاف إليها السجون والنقص الحاد في عدد القضاة المؤهلين، والمدعين العامين، والمحاميين وضباط الشرطة المؤهلين، ومن أبرز النتائج أو الظواهر لهذه المرحلة الفساد، وعدم الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتراكم القضايا في النيابة العامة والمحاكم، وبالتالي عدم ثقة الجمهور في نظام العدالة ككل.
وقد عانى قطاع العدالة في فلسطين من معظم هذه الظواهر خلال انتفاضة الأقصى، حيث تم تدمير المقرات الأمنية، ومراكز الإصلاح والتأهيل، والمختبرات الجنائية...الخ، فتعطل عمل الشرطة، والنيابة، والمحاكم، وزاد عدد الخارجين عن القانون، والمطلوبين للعدالة، وانخفض عدد القضايا الواردة للنيابة والمحاكم، وزاد عدد القضايا المدورة في كل منهما، كما زاد عدد القرارات غير المنفذة من قبل الشرطة والصادرة عن النيابة والمحاكم. كل هذا أدى إلى ضعف ثقة المواطن بنظام العدالة في فلسطين، ما أثر سلبا على قوة سيادة القانون. لكن من ناحية أخرى حافظت مؤسسات التعليم القانوني ومؤسسات حقوق الإنسان في فلسطين على مستوياتها أثناء الانتفاضة، بل ورفعت من شأنها وزادت عليها، ما ساعد في رفد قطاع العدالة بالكوادر البشرية، وتقديم المساعدات القانونية خلال فترة عملية الإصلاح والتي ما تزال مستمرة. وفي اعتقادي أن هذا عامل إيجابي لتسريع عملية الإصلاح. ففي بعض الدول مثل تيمور الشرقية لم يكن هناك سوى عدد قليل من القانونيين في البلد بعد انتهاء الحرب وتأسيس الإدارة الانتقالية للأمم المتحدة في تيمور الشرقية، فكانت نقطة البداية ضعيفة وبطيئة، لكن في الحالة الفلسطينية وبسبب وجود عدداً لا بأس به من القانونين كانت نقطة البداية قوية.
قد تسبق مرحلة إصلاح قطاع العدالة، تقوية دعائم قطاع الأمن والاستقرار، حتى تكون عملية إصلاح قطاع العدالة مبنية على أسس قوية تضمن استدامتها، وهذا ما حصل في الحالة الفلسطينية حيث تم التركيز في المرحلة الأولى لعملية الإصلاح والتنمية على تقوية وإصلاح قطاع الأمن ورصدت له مبالغ كبيرة شكلت نسبة عالية من الموازنة التطويرية، في المقابل كانت نسبة الموازنات المرصودة لقطاع العدالة قليلة، إذا ما قورنت بنظيرتها في الأمن، وهذا باعتقادي جائز في عملية الإصلاح المبنية على تحديد الأولويات، شرط أن يكون ذلك على المدى القصير، تليه عملية إصلاح شاملة وواسعة ومتوازية في قطاعي الأمن والعدالة على المدى المتوسط والبعيد.
تتكون عملية إصلاح قطاع العدالة في مجتمعات ما بعد الصراع من عدة عمليات فرعية هي، إصلاح القانون، وتعزيز القدرة القضائية، وإصلاح التعليم والتدريب القانوني، وتعزيز المساعدة القانونية/ الوصول للعدالة، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني في تطوير قطاع العدالة، ومكافحة الفساد.
لا شك أن عملية إصلاح قطاع العدالة في فلسطين ستأخذ أولوية في عملية الإصلاح الشاملة، وفي اعتقادي أن الخطة الوطنية لقطاع العدالة وسيادة القانون للأعوام 2011- 2013، قد التزمت بالنهج الشمولي لعملية الإصلاح، فركزت على تطوير المنظومة القانونية، وتعزيز القدرة القضائية، وتعزيز دور المجتمع المدني في عملية إصلاح قطاع العدالة والذي شارك في إعداد الخطة أيضاً، وتطوير التعليم القانوني، وتطوير نظام المساعدة القانونية / الوصول للعدالة، ومكافحة الفساد، لكن الأهم من ذلك هو تحويل هذه السياسات إلى حقائق ملموسة.
من ناحية أخرى لا بد من إنهاء الانقسام، وتوحيد عملية الإصلاح لكي تكون العملية شاملة وغير منقوصة، فلا يمكن أن يكون قطاع العدالة في فلسطين فاعلاً إذا كانت القوانين والنظم والإجراءات، في الضفة الغربية وقطاع غزة مختلفة.
ـــ