قناة الجزيرة المتعددة الألوان والأهداف
م. عماد الفالوجي
كنت - ولازلت - من المعجبين بقناة الجزيرة الفضائية , واعتبر أن هذه القناة بالرغم من حجم الانتقادات التى تطالها دائما من جهات عدة , وبالرغم خوضها فى قضايا تفصيلية تخص بلادنا وتثير غضب حكامنا ولا ترضي الكثير من أحزابنا إلا أنني كنت دائما أسجل لهذه القناة حق السبق فى طرح الأفكار الجديدة والمستفزة للعقل العربي , وكان لها الفضل فى ميلاد حالة من التجدد الفكري والثقافي بين المفكرين والمثقفين العرب بعد الخمول الذي مر عليه عقود , وقد تكون هناك بعض الأخطاء – سواء المقصودة أو غير المقصودة - ولكن لا يمكن لكل من يعمل فى حقل الإعلام الجريء والمباشر أن يحظى برضي الكل وخاصة إذا تعلق الأمر بأوضاع بلداننا العربية , لأن الثقافة السائدة هي الخوف من كشف المستور دائما ورفض مبدأ المواجهة , ولكن نجحت قناة الجزيرة وبامتياز أن تفرض واقعا إعلاميا لا يمكن لأي فضائية بعدها إلا تقليدها بشكل من الأشكال , وأصبحت البرامج الحوارية المباشرة تقليد تقوم به كافة الفضائيات , وأصبحت الفضائيات تتنافس فى استضافة القادة والمسئولين من كافة المستويات السياسية ومن كافة المشارب الفكرية دون خوف أو تردد , ووصل الأمر لقناة الجزيرة أن يكون لها أيضا فضل السبق فى كسر الحصار الإعلامي العربي عن الكيان الإسرائيلي , ولعلها القناة الفضائية الوحيدة التى تكتب على خارطة الشرق الأوسط حين ظهورها خلف المتحدثين كلمة ' إسرائيل ' وبالخط العريض عند خارطة فلسطين التاريخية مع فصل منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة ولا تكتب عليها ' فلسطين ' بل تتركها عائمة , وهذا فى الحقيقة هو الواقع – بعيدا عن لغة العواطف – فهي قناة واقعية بجرأة لم يسبق لها مثيل , وأول قناة استضافت شخصيات إسرائيلية فى كافة برامجها دون الشعور بأي حساسية تحت شعار الانفتاح الحر على الجميع ليسمع المواطن العربي الموقف الإسرائيلي على لسان قادته , وأصبح هذا المبدأ ديدن بقية الفضائيات , والمتابع لسياسة الجزيرة الإعلامية فهي تتعامل مع كافة الأطراف بشكل متساو بكل جرأة واقتدار , فلا فرق لديها فى منح مساحة من الوقت بين الضيف الإسرائيلي والفلسطيني أو الأمريكي والعراقي وغيرهم فكلهم لديها من البشر ولا يجوز حسب المهنة الإعلامية والشفافية التمييز خدمة للحق والحقيقة .
وبسبب تلك السياسة التى لا تنكرها قناة الجزيرة - بل تفتخر بها - حازت على الكثير من المعجبين ومثلهم من المعارضين الكارهين لها , وكان يمكن الدفاع عن سياستها تلك بكل سهولة لولا بعض الانحرافات التى لا تخلو منها بعض برامجها والتي لا يمكن وصفها سوى بالجرأة المقصودة التى تصب فى خدمة طرف معين , وحسب سياستها فلا فرق لديها بين الأطراف , فالطرف الإسرائيلي كما سبق القول هو طرف طبيعي فى المنطقة وبالتالي لا مانع أن يستفيد من خطوة أو حلقة أو نشر خبر معين – بغض النظر عن مدى المصداقية أو التأثير – وعلى هذا الأساس يمكن الحكم أو التعامل مع قناة الجزيرة , فمن أرادها أن تكون قناة فضائية عربية تختص وتهتم أكثر بالقضايا العربية وعمل لصالحها فقط فستكون قناة عربية روتينية ولن تجد القناة ما يميزها , ولذلك فهي تبحث عن الجديد والغير متوقع لدى الذهن والعقل العربي , ولعل أسهل وأسرع وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو الاقتراب أكثر من كل ما يثير ويحفز هذا العقل العربي وبالتأكيد المادة الأكثر إثارة هي القضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي , فإذا كان الجميع يتعامل مع الكيان الإسرائيلي بأنه عدو - يجب وضعه فى خانة ضيقة وإحراجه - فإن جديد الجزيرة هو رفع الحظر عن هذا الكيان وإذا تساوت القناة مع غيرها فى هذا الجانب تكون الخطوة الأكثر إثارة هو فتح قضايا تخدم هذا الكيان تحت شعار ' الجرأة والشجاعة الإعلامية فى معرفة الحقيقة ' .
برنامج ' كشف المستور ' الذي بدأته قناة الجزيرة وفيها نشر لآلاف من الوثائق والأوراق السرية حول المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية والطريقة الإعلانية الضخمة التى صاحبت نشر تلك الوثائق لا تعدو إحدى الأساليب التى تميزت بها قناة الجزيرة فى جلب المشاهد العربي ورفع مستوى حماسه للقناة , وهذا هو الهم الأكبر للقناة بغض النظر عن قضايا أخرى قد يطرحها البعض حول الأثر النفسي لهذه البرامج على عقل المشاهد العربي أو الآثار السلبية على القضية الفلسطينية فى وقت تخوض فيه السلطة الفلسطينية معركة سياسية صعبة , فهذه قضايا لا تعني قناة الجزيرة وتصطدم مع سياستها , لأن هذه الحساسيات ستفقدها روح الشجاعة والمخالفة لجلب المشاهد العربي , والمقياس لدى الجزيرة فى نجاح برامجها هو قدرة هذا البرنامج على جلب المشاهدين واستفزاز عقولهم دون النظر أو التدقيق فى نتائج البرنامج وآثاره السلبية على المواطن أو القضايا الوطنية العامة .
ومن غرائب هذه القناة أن المراقب لأصدقائها وخصومها يتناوبون عليها , فأعداء اليوم هم خصوم الأمس , وهي تجمع فى آن واحد كل المتناقضات فرجل الدين سيجد ذاته من خلال برنامج العلامة يوسف القرضاوي ' الشريعة والحياة ' ورجل الفكر سيجد ذاته فى البرامج الحوارية المختلفة , وأما سياسيا فالقناة تدعم قوى الممانعة وتعطيهم مساحة ترضيهم وقوى الاعتدال يرون فيها نموذجا للانفتاح والتطبيع مع الخصوم , أما من أراد المتعة فى المشاهدة فسيجد الجمال أيضا لمقدمات البرامج ونشرات الأخبار , ولذلك وفي ذات الوقت لا تجد طرفا يرضى عن تلك القناة رضا كاملا , فلكل طرف تحفظاته , المتدين ضد خروج المذيعات متبرجات وصاحب الفكر الممانع ضد استضافة شخصيات صهيونية على برامج القناة وصاحب الفكر المعتدل ضد منح القناة تلك المساحة لمعارضي الأنظمة وهكذا تجمع قناة الجزيرة فى آن واحد كل هؤلاء , وجميعهم يعمل على تجاوز تلك التحفظات لتحقيق مصالح لا يجدوها عند غيرها من القنوات , فهي القناة الأكثر مشاهدة وتأثيرا فى العالم العربي , ولذلك يحرص كل طرف تحقيق مصالحه والقناة أيضا تحقق مصالحها المعلنة والغير معلنة , ولعل نجاحها مستمد كونها تنفذ ذات السياسة التى تقوم بها الدولة المضيفة لها وأصحاب رأس المال .
ولاشك أن الدور الذي تلعبه قناة الجزيرة من أخطر الأدوار ولكننها وبجدارة نجحت فى كافة المهام الموكلة بها بل جعلت سياستها نموذجا لمن أراد النجاح وفرضت واقعا جديدا على الإعلام العربي من الصعب تجاوزه , ولعل هذا النجاح من أحد أهم أسبابه هو فشل الإعلام الرسمي من نيل ثقة المواطن العربي وتحجر ذلك الإعلام واستخفافه بعقل المشاهد العربي مما دفع المشاهدين أصحاب العقول من التوجه الى تلك المحطات لتلبي حاجاته وهذا جعله يقع ى براثن إعلام موجه لا يرحم , وجل همه هو تنفيذ مخططات لقوى لا تريد الخير لجيلنا العربي القادم , ومن هنا فإن من يتحمل جزءا مهما من المسئولية للسماح لمثل هذه القنوات بالتغلغل داخل مجتمعاتنا هو فشل الأداء الإعلامي الرسمي العربي .