القصة مثيرة وتحوي بين ثناياها كل عناصر الإثارة. المال والعمل السري والمرأة والتجسس. والقصة مثيرة على وجه الخصوص لأنها تشغل بال القطاع المصرفي في العالم. ومع ذلك فإن السؤال الأهم ما هو الصحيح وما هو المختلق فيها وأين يقع الخط الفاصل بينهما؟
هي في نظر البعض مجرد سرقة من النمط الحديث. سرقة لا يقدر على تنفيذها سوى الخبراء رفيعي الاختصاص من ذوي الياقات البيضاء. والبعض الآخر يصدق كلاما آخر, يردده البطل الأول للقصة, هارف فالسياني, حول العمل من أجل «الموساد» ودوره في لبنان ومصيدة نصبتها له فتاة لبنانية.
وتبدأ القصة بخبر عالمي مدو. أقدم أحد أكبر البنوك في أوروبا, بنك HSBC البريطاني, على الاعتراف بشكل مباغت في الحادي عشر من الشهر الفائت: بأن المدعي العام السويسري قدم له براهين على أن أحد مستخدمي فرع البنك في جنيف, هارف فالسياني, سرق معلومات تتعلق بـ24,000 حساب بنكي وأنه حاول بيعها في الخارج. ولهذا الغرض سافر فالسياني إلى لبنان في العام 2008 بقصد تسويقها هناك. وشكلت محاولته الفاشلة في لبنان بداية انكشاف مشروعه للسرقة.
وأشارت الصحف السويسرية إلى أنه كانت له في هذا المشروع شريكة لبنانية. وبحسب تقارير نشرتها وكالة رويترز في حينه فإن فالسياني حاول أيضا في ألمانيا بيع معلوماته البنكية بحوالى أربعة ملايين دولار. وقد أغارت الشرطة الفرنسية على بيته بعد حصولها على معلومات بشأن القضية من سويسرا ولكن سرعان ما نشبت أزمة بين الدولتين جراء امتناع فرنسا عن تسليم سويسرا المعلومات التي عثرت عليها لدى فالسياني. بل ثمة من يقول أن فرنسا منحت فالسياني الأمان وأعطته هوية جديدة يعيش بها في جنوب فرنسا حاليا. وأوضحت صحيفة سويسرية أن المدعي العام الفرنسي في نيس تعامل مع فالسياني على أنه أخرج المعلومات عن 130 ألف حساب بنكي لغرض نبيل. ولكن بنك HSBC يقول أن فرعه في جنيف لا يحوي أكثر من 100 ألف حساب وأنه لا شأن له بالحسابات في أية فروع أخرى.
وقد التقى مراسل «معاريف» مع فالسياني في جنوب فرنسا فروى له قصة تبدو غريبة. إنها قصة تهرب من الضرائب بمليارات الدولارات وقصة تجسس وحرب سرية ضد الإرهاب. وأشارت «معاريف» أيضا إلى أنها لا تعلم بعد المقابلة إن كان فالسياني مهندس كومبيوتر بريء وقع في مأزق ومؤامرة دولية أم هو رجل مثالي يحارب المتهربين من الضرائب أم أن «الموساد» الإسرائيلي يقف خلف القصة التي أشغلت, ولا تزال, تشغل عالم المصارف في سويسرا.
ويروي فالسياني القصة على النحو التالي «في 24 آب 2007, في وقت قريب من منتصف الليل, عدت إلى بيتي بعد أمسية لعب بوكر مع أصدقاء. لم أعرف كل من كان يلعب هناك ولم أنتبه للحضور. وفي طريق العودة تجاوزتني دراجة نارية وبعدها سدت شاحنة الطريق أمامي. وهاجمني شخصان, سدد أحدهما مسدسا إلى صدغي. وطلبا مني الاستلقاء على الأرض. بعد ذلك أدخلاني في سيارة ونقلاني إلى قبو, عرفت أنه قبو الكنيس في الحي».
ويضيف فالسياني في مقابلته مع «معاريف» أنه «كان هناك شخص ضخم أسمر البشرة وكان ساكتا في حين تحدث معي شخص أشقر طويل بلغة فرنسية من دون لكنة. وقال لي أنهما من رجال «الموساد» واعتذر لي لأنهما اضطرا لاختطافي, لأن هناك أجهزة مخابرات أخرى مهتمة بأمري. ارتجفت من الخوف. وأوضح لي أنهم يشتبهون بأن حزب الله الإرهابي أفلح في التغلغل في منظومة البنك الذي أعمل فيه, من أجل استخدام أموال لأغراض إرهابية وبغية الحصول على معلومات عن الودائع. وقد توجها لي لعلمهما أنني من أصل يهودي, وأظهرا لي دراية كبيرة ودقيقة بشأن البنك ومنظوماته. وقالا أنهما يعلمان أن المنظومة غير محمية, وسألوني إن كنت أشتبه بأحد من زملائي في البنك وطلبا مني أن أفتح عيوني. وبعد ذلك أعطياني بطاقة عليها عنوان الكنيس, وطلبا مني إرسالها إذا رغبت في تحديد موعد».
وفالسياني ابن لأم يهودية مغربية تزوجت من مصرفي من موناكو. ويعتبر نفسه «نتاج الشتات اليهودي». ولديه عائلة في إسرائيل. وهو يعتبر نفسه عرضة لتهديدات حزب الله الذي «أفلح», حسب قوله, «في اقتحام منظومة بنك HSBC». وكان أول عمل لفالسياني في موناكو في الكازينو الشهير ثم عمل في «بنك صفرا».
وعمل فالسياني على تغيير منظومة بنك HSBC فبرزت لديه شكوك بشأن تبييض الأموال والتهرب الضريبي. وهنا بدأ الخلاف بين فالسياني والبنك حيث يعتبر نفسه تصرف بمنطق أخلاقي في حين يشير البنك إلى أنه تصرف بغرض الكسب السريع. ويعرف فالسياني أن الإبلاغ عن تهرب ضريبي في العديد من الدول الأوربية يمنح الواشي مقابلا مجزيا. وكان شخص قد سلم ألمانيا معلومات عن حسابات في بنك في إمارة ليخشتاين ونال مقابل ذلك 5 ملايين يورو.
جورجينا اللبنانية
وفي مرحلة خلاف فالسياني مع البنك دخلت على الخط من أسماها جورجينا م (34 سنة) وهي تحمل الجنسيتين اللبنانية والفرنسية. فقد انضمت للعمل في البنك في ربيع العام 2007. وقال فالسياني إن هذه الفتاة عملت منذ البداية على التقرب منه. وأشارت الصحف السويسرية إلى أنه نشأت بين الاثنين علاقة غرامية لكن فالسياني لم يقر أبدا بذلك. وقد عملت جورجينا أيضا في مجال حماية المعلومات حيث أنها تملك شركة خاصة باسم «فلوربا» مسجلة في لبنان وهونغ كونغ وحاولت إدخال فالسياني كشريك. وتقول المصادر السويسرية إن الاثنين كانا بحاجة إلى تمويل سواء للشركة أو للوفاء باستحقاقات الطلاق من زوجته من أجل أن يتفرغ لجورجينا. ولهذا قرر فالسياني أن يبيع المعلومات لمن يدفع أكثر. وهذا ما يفسر لديهم زيارة فالسياني لبيروت في شباط 2008 واجتماعه مع ممثلي أربع بنوك وشركات.
ولكن فالسياني يروي رواية أخرى لا يجد من يصدقها. فهو يقر أنه بسبب علاقته المتوترة مع البنك بدأ يبحث عن عمل آخر وأن جورجينا عرضت عليه محاولة الاستثمار في مشروع في بيروت. ولكن هنا تدخلت في الأمر قوى خفية لا يشك فالسياني في هويتها: فقد تم تجنيده, للخدمة السرية الإسرائيلية في طريق عودته من الكنيس.
وقال إنه خاف على عائلته وأنهم قالوا له أن خطرا يتهددهم. وأشار إلى أنه «عند عودتي للعمل في البنك بدأت أرتاب في زميل من أصل سوري وآخر من أصل جزائري. فقط في وقت لاحق فكرت في جورجينا, خصوصا بعدما عرضت علي السفر إلى لبنان». وفي 12 أيلول 2007 أرسل فالسياني البطاقة إلى الكنيس, حسب طلب العملاء. وتحدد اللقاء هذه المرة في الجانب الفرنسي من الحدود. ومرة أخرى وصل الأسمر والأشقر. «رويت لهما عن شكوكي. ركزوا على الفور على جورجينا. وقالا لي بأن أوافق على السفر إلى لبنان لكنهما اشترطا ذلك بأن ترتب هي لي الحصول على بطاقة هوية لبنانية». ويضيف فالسياني: «قال الرجلان لي بأن لا أقلق وأن رجالهم سيكونون هناك, سيرافقونني على طول الرحلة إلى بيروت والعودة منها». وفوجئ فالسياني باستجابة جورجينا لشرط الحصول على بطاقة هوية وقالت إنه يمكن استخراجها في بيروت.
ويصف فالسياني لـ»معاريف» كيفية ذهابه الى بيروت مع جورجينا للحصول على بطاقة الهوية ويقول: «عندما وصلت لبيروت تقيأت من شدة التوتر. ولكن هذا سهّل الأمر وقررت أنه ليس عندي ما أخسره. وذهبنا لاستصدار بطاقة الهوية. وكل من التقيتهم هناك كان اسمهم بيير أو جورج. وفي الطابق الأول أخذوا مني صورة. في الطابق الثاني التقيت بواحد قال لي أن الأوراق سليمة وأشار لي بالابتعاد عن جورجينا. وأصدروا لي بطاقة هوية باسم روبن الحيدياق ولكن جورجينا هي من تسلمتها. بعد ذلك قالوا لي أنه تم العثور على البطاقة في مغلف كان بحوزتها»
وفشلت الاتصالات التجارية ونشأ انطباع بأن محاوريه لا ينوون تمويل مشروع جورجينا. كما أن مبعوثي «الموساد» لم يستأنفوا الصلة معه بعد عودته إلى جنيف. لذلك قرر الاتصال بأجهزة الأمن الفرنسية وخصوصا الوحدة الخاصة بالجرائم الاقتصادية.
وبعد عامين من اختطافه نشبت بين فرنسا وسويسرا أزمة دبلوماسية شديدة. فالعلاقات بين الدولتين متوترة على خلفية تهريب الأموال الفرنسية إلى ملاجئ المصارف السويسرية السرية. وفي كانون ثاني 2009 طلبت سويسرا من فرنسا تسليمها فالسياني. فقد اشتبه السويسريون بأن فالسياني سرق معطيات تتعلق بزبائن البنك وهي معطيات إذا تسربت فسيلحق ضرر كبير بالبنوك السويسرية. من جانبهم فهم الفرنسيون أن الأمر يتعلق بكنز قيم خصوصا إذا كان قسم من زبائن البنك هم فرنسيون متهربون من الضرائب. ولذلك لم يهرع القضاء الفرنسي للتجاوب مع الطلب السويسري. وطلبت فرنسا من سويسرا الشيفرة لحل ألغاز المعطيات ثم أعلن المدعي العام للريفييرا الفرنسية أريك دي مونغولافي في تموز 2009 أن «بحوزتي قائمة بأسماء 3000 مواطن فرنسي جميعهم من الحيتان الذين يملكون حسابات سوداء في سويسرا». كما أعلن أن بيده معلومات لا تقل عن 127 ألف حساب بنكي وأعلن للمرة الأولى اسم فالسياني الذي قال عنه بأن دوافعه ليست أقل من «مسيحية». وبحسب تقديرات أولية فإن تقديرات الأموال المتهربة من الضريبة لهؤلاء تبلغ 3 مليار يورو. وتوجهت وزارة المالية لهذه الأسماء طالبة منهم ترتيب أوضاعهم الضريبية.
وتم عرض فالسياني في الإعلام كمحارب نبيل ضد الفساد المالي. وتعلن فرنسا أنها لم تسلم قرشا واحدا مقابل المعلومات الثمينة التي حصلت عليها من فالسياني. وبالتالي فإن فرنسا ترى أن فالسياني لم يسرق معلومات ولا مجال لاتهامه بشيء.
ولكن السويسريين لهم رأي آخر. وقد وجهوا إنذارا لفرنسا طالبوها فيه بإعادة المعلومات فورا. كما أن الرئيس السويسري هانس رودلف ميرتس اتهم فرنسا «بالحصول على معلومات بشكل غير قانوني». وهددت أنه إذا لم تعد المعلومات فإن سويسرا لن تصادق على معاهدة مشتركة بشأن الازدواج الضريبي والانتهاكات المالية. وقد رد مجلس الشيوخ الفرنسي على التهديد السويسري بضم سويسرا للقائمة السوداء للدول التي تمنح ملجأ للمتهربين من الضرائب.
وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط تعيد بموجبه فرنسا نسخة عن المعطيات والاحتفاظ بالأصول وملاحقة المشبوهين بالتهرب الضريبي. وامتدت التحقيقات الفرنسية بهذا الشأن إلى ألمانيا. ولهذا عاد السويسريون لتقليص الأضرار وصار بنك HSBC يردد أن عدد الحسابات المتضررة ضئيل لكنه اضطر أخيرا للاعتراف بأن ما تم سرقته قد يصل إلى معلومات 15 ألف زبون فضلا عن معلومات 9 آلاف آخرين أغلقوا حساباتهم.
ويتساءل فالسياني في مقابلته مع «معاريف» عن مصير جورجينا التي قيل أنها فرت إلى لبنان وأنها تنوي رفع دعوى تشهير ضد فالسياني. ووصلت إلى سويسرا قبل حوالى أسبوعين لتقديم شهادتها. وتفيد مصادر سويسرية أن المعلومات بشأن زيارة بولسياني إلى لبنان وصلت السلطات السويسرية من المخابرات اللبنانية.
وأخيرا تطرح «معاريف» تساؤلات حول ما إذا كانت جورجينا عميلة مزدوجة أو حتى مثلثة ولصالح من كانت تعمل؟ وهل وصلت معلومات عن حسابات إسرائيلية إلى حزب الله؟ والأهم هل يمكن تصديق قصة فالسياني؟