أهالـي مخيـم شاتيـلا يصنعـون رمضانهـم.. بابتسامـة دائمـة

قناني الجلاب والتمر الهندي وعصير الفريز والموز والحليب تصطف بجانب بعضها البعض على الطاولة الخشبية. القناني البلاستيكية متعرقة. نقاط الرطوبة تسيل من رأسها إلى أسفلها مؤكدة حركة الصدام بين برودة المحتوى والحر الذي يحيط بها.

قرر الشاب الجالس خلف الطاولة تغيير مهنته الأصلية كميكانيكي للدراجات النارية منذ بدأ شهر الصوم. بات بائعاً مستجداً للعصائر والمشروبات الرمضانية. ليس اسماعيل الزين وحده من قام بتغيير عمله إلى بائع للمشروبات. مثله فعل كثر من شبان مخيم شاتيلا بحثاً عن فرصة، ولو موقتة، لتحسين مداخيلهم. تغيير يشبه علاقة الفلسطيني بهذا البلد. كل ما يفعله فيه يجب أن يكون موقتاً. العمل موقت. السكن موقت. الوجود موقت..

خلف الكرسي الذي يجلس عليه اسماعيل براد بلاستيكي مغلق يحتوي على ألواح من الثلج. كلما نقصت قنينة عن الطاولة سحب اسماعيل قنينة من البراد ووضعها مكانها.

قبل ساعة ونيف من موعد الإفطار ينشغل اسماعيل. والحركة تأخذ وتيرة سريعة في أزقة المخيم الضيقة والازدحام كثيف. الدراجات النارية لا تتوقف عن اختراق جموع المشاة. بعضها يطلق أبواقه إنذاراً لهؤلاء الأخيرين، والبعض الآخر يهرب منهم بمناورات تشبه العروض البهلوانية.

دكان الحلويات لا يحمل اسماً. اللافتة تكتفي بالتعريف عن المنتجات فقط: «أفخر الحلويات الطرابلسية». أصحاب المحل ثلاثة أخوة من آل عبد العزيز وصلوا إلى شاتيلا من مخيم نهر البارد، بعدما حرمتهم الحرب منازلهم وتجارتهم. جاؤوا إلى شاتيلا منذ سنوات ثلاث واستأجروا فيه الدكان وثلاثة منازل. والدة الشبان الثلاثة، الحاجة راضية، ترحّب بكل الوافدين إلى المحل بابتسامة مضيافة. ابتسامة لا تغيب عن وجهها طوال فترة حديثها مع ضيوفها من زبائن الدكان. الحاجة قانعة بما تكتبه الأيام، ولو كان صعباً. العبارات التي تستخدمها تؤكد هذا الأمر.

ليس دكان الحلويات كبيراً. وبرغم مساحته غير الفضفاضة تم تقسيمه إلى زوايا ثلاث. الواجهة عبارة عن بسطة تحمل أصنافاً متنوعة من الحلويات مثل الشعيبيات بالقشطة، والعثملية، والقطائف بالجوز، وزنود الست، وحلاوة الجبن والأرز. القسم الثاني الذي يقع خلف الواجهة هو المعمل. تفصل بين واجهة المبيعات والمعمل ستارة من القماش فقط. أما القسم الثالث، ويقع خلف جدار سميك، فهو الفرن الذي يخبز فيه عجين الحلويات.

يقول جودت، أحد أصحاب الدكان، إن محل العائلة السابق في نهر البارد كان أكبر مساحة من الحالي. ويضيف شقيقه جهاد: «لكن المبيعات في بيروت أفضل من مثيلتها في طرابلس. وفي شاتيلا محلات لبيع الحلويات فقط. نحن واحد منهما». طبعاً هذا الحديث لا يشمل عربات الحلويات العربية التي تدور طوال الوقت في أزقة المخيم.

الدخان الخفيف الذي يخرق الجو يعود لسهم ناري ينفجر قرب باب محل لبيع أجهزة الهاتف الخلوية وبطاقات التعبئة. السهم لأطفال صغار يلعبون بالمفرقعات. يضعونها في قناني مياه فارغة ومن ثم يطلقونها على بعضهم البعض بشكل عشوائي. بعدما كاد السهم أن ينفجر داخل المحل ينهرهم شاب غاضب بصوت عال فيتفرقون هاربين باتجاهات مختلفة.

يرحب صالح داوود بحماسة ظاهرة بزوار المخيم. يتحدّث الخمسيني باهتمام عن الإفطار اليومي الذي تنظمه «رابطة أهالي مجد الكروم». صالح هو أحد أعضاء الرابطة. والإفطار الذي تقدمه الرابطة واحد من ثلاثة يومية في المخيم. الاثنان الآخران تنظمهما «جمعية البراعم للإغاثة والرعاية» في قاعتين مختلفتين. الأولى للأطفال قرب بناء جيش التحرير المهدم، والثانية للمسنات وتقع في مسجد التقوى. الإفطارات اليومية في المخيم جزء من مجهود شخصي لأهالي المخيم وأهالي الخير.

النشاط على أشده في مقر الرابطة، في شارع مسجد مخيم شاتيلا، قرب مركز «الأونروا». شبان وصبايا، بعضهم متطوع والبعض الآخر مدفوع الأجر، يعملون منذ الظهر إلى ما بعد الإفطار. في الأيام العادية تكون القاعة مكاناً للقاء ولإحياء المناسبات الاجتماعية من مجالس للتعزية والعمل الاجتماعي والرياضي وما شابه. ممولو الإفطار هم من أهالي البلدة ومن أبناء بلدات أخرى، لاسيما الفلسطينيون الذين يحملون جنسيات أجنبية. التبرعات لا تقتصر على ثمن مواد الطعام والعاملين في طهيه وتحضيره. إذ يشمل أيضاً مراوح الهواء ومكبرات الصوت والكراسي البلاستيكية.

في المطبخ الذي لا يبعد كثيراً عن مقر الرابطة ترتفع النار تحت قدر عملاق للأرز. «وجبة اليوم هي الكبسة باللحم أو الدجاج، المصنوعة على طريقة أهالي بلاد الشام»، بحسب ما يشرح أحد الشبان. ترافق الوجبة اليومية أصناف أخرى مثل المعجنات والفتوش واللبن والحمص والحلويات والفواكه والمرطبات.

يمتد المطبخ على مساحة ثلاث غرف من منزل قريب من مقر الرابطة تقدم به أحد المتبرعين من أهل مجد الكروم الذي يعيش في منطقة الطريق الجديدة. مسؤولا الطهي فيه هما الحاج خالد وأم عبد الله. الشاب بلباس الطهاة المتخصص والسيدة بفستان مزركش يتوليان تزيين أطباق الأرز التي تخرج من القدر العملاقة بطبقة من اللحم المفروم وحبوب البازلاء والجزر المسلوق والمكسرات. رائحة الأرز الشهي تنتشر في فضاء المنزل الذي يضيق بعماله، الذين لا يكفون عن المزاح.

غفا أبو عادل على كرسيه. لم يرفع رأسه المتكئ على بسطة الخضار إلا بعدما انتبه إلى أن آلة التصوير تلتقط صورته. يمسح عينيه بكلتا يديه ويبتسم لآلة التصوير. لكن الصورة لن تلتقط. كانت تبحث عن قيلولة أبي عادل السريعة وليس عن ابتسامته التي يوزعها على كل الداخلين إلى دكانه الذي تتواجد فيه معظم أنواع الخضار والفواكه.

يقول جار أبي عادل، وزميله، بائع الخضار عبد القادر حمادي، الذي بادر إلى الحديث نيابة عن جاره المستيقظ تواً، إن أربعة أصناف من الخضار والفواكه يزيد الطلب عليها خلال شهر رمضان، لا يسأل عنها المرء في الأيام الأخرى. البلح العراقي الأصفر، التمر اليمني، الرمان الحامض، والفليفلة الحمراء. ولكل من هذه الأصناف استخداماته. يدخل شاب طويل أسمر بأوشام تغطي عضلات يديه المصقولتين. يطلب مقدار كيلو واحد من التمر اليمني الموزع على شكل تلة صغيرة في صدر النحاس الموجود فوق الصناديق البلاستيكية السوداء. يبتسم حمادي. يزهو بنظريته التجارية التي أصابت.

يحين موعد آذان الغروب.

يرتفع صوت التكبير واحداً من مساجد المخيم الثلاثة: التقوى، جنين، ومخيم شاتيلا. ازدحام النهار بات من الماضي الآن وابتسامات الصائمين ذهبت لتلاقي فرح الإفطار. يصرخ أحدهم مهللاً. تحث طفلة في العاشرة من عمرها الخطى. يقضم بائع بطاطا قطعة من الحلوى. يرتشف عجوز في دكانه جرعة من المياه.

لقد انتهى يوم آخر من الصوم.

» فرحة تحرير الأسـرى في «بـرج البراجنـة» و«شاتيـلا»: «عـم نبكـي كرمالهـن... منتمنـى نكـون معاهـن»
» إعمـار منـازل فـي مخيـم البـرج الشمالـي.. وأخـرى تنتظـر
» المرحلة الجـديـدة فـي مخيـم «نهـر البـارد»: «أسئلـة» فـي موضـوع استـلام البيوت
» «الجبهـة الشعبيـة» تتقبـل التعـازي فـي مخيـم اليرمـوك: «مناضـل آمـن بالوحـدة والمقاومـة طريقـاً لتحريـر فلسطيـن»
» «حي الصاعقة» بات «حي الطليان».. ومنعوا رفع العلم البرازيلي فيه مبـاراة البرازيـل ـ تشيلـي كمـا عاشهـا أهـل مخيـم بـرج البراجنـة