رسالة دكتــوراه لباحث فلسطيني تكشف مستـور الخطاب السياسي للجزيرة

منحت جامعة ممفيس في ولاية تينيسي الأمريكية درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف للباحث الفلسطيني محمود السعدي نظير أطروحة علمية قدمها لقسم الاتصال تحت عنوان 'قناة الجزيرة؛ انتفاضة على الهواء'.

ويؤكد السعدي في أطروحته أن الجزيرة ليست حالة ثورية وإنما تمثل تقدماً نوعياً للإعلام الرسمي، ولذلك يرى الباحث أن ما حققته القناة القطرية من نجاح في إنهاء الهيمنة الرسمية على صناعة الخبر واحتكار المعلومات منحها فاعلية اكبر في التأثير على آراء وتوجهات الجمهور كما زودها بقدرة أعظم على 'تزييف الوعي' وإعادة إنتاج النظم الاوتوقراطية الحاكمة والترويج غير المباشر للنظام القطري كنموذج مُغاير لحكم الفرد.

وفي مستهل أطروحته يفند الباحث الفلسطيني أراء اتجاهين فكريين؛ يزعم أتباع الأول منهما أن قناة الجزيرة تمثل قـوة تـدفع الجمهور العربي باتجاه 'التطرف' فيما يزعم أتباع الاتجاه الثاني بأن تأثير الجزيرة وخطابها، على النقيض تماماً، يُزحزح الجماهير العربية نحو 'الاعتدال'.

ويوضح السعدي أن كلا الاتجاهين يعكسان منطلقاً فكرياً واحداً فـ'هاجسهما المشترك هو استقرار المنطقة العربية'، كما أنهما اعتمدا تفسيراً حرفياً لخطاب الجزيرة، ولم يوليا أي اهتمام للسياق التاريخي لنشأة القناة القطرية، فضلاً عن أن هذين الاتجاهين يُعبران عن نظرة دونية وأحكام مسبقة لدى أتباعهما تجاه الجمهور العربي بوصفه 'جمهور متطرف ولاعقلاني'.

وبرغم مـيل الباحث لمؤيدي مدرسة ثالثة ممن يرون في الجزيرة شكلاً متقدماً للإعلام الذي يعمل في خدمة المصالح الإستراتيجية للنظام الحاكم/ دولة قطر في هذه الحالة، إلا أن السعدي يأخذ على أصحاب هذا الاتجاه تركيزهم على السياق التاريخي وعدم ايلاء اهتمام كاف لاستنباط الأدلة المؤيدة لهذا الرأي من طيات الخطاب السياسي للجزيرة.

وفي الفصل الأول من الرسالة -التي جاءت في سبعة فصول احتلت ثلاثمئة واثنتين وستين صفحه- يوضح الباحث أنه تجنب استخدام أي من المناهج التقليدية في تحليل خطاب الجزيرة؛ وكبديل عنها استعار مفاهيم عدة من مفكرين كبار دون أن يُلزم نفسه بما تمثله تلك المفاهيم من مدارس فكرية غربية وذلك إدراكا منه لخصوصية وتمايز الخطاب السياسي واللغوي والثقافي العربي.

ويشير د.محمود السعدي في فصل آخر الى انه استند في تحليل نص وخطاب الجزيرة إلى ما يسميه (التوافق الانزياحي Deflective Identification) وهو مفهوم يوظفه الباحث لتقصي 'استخدام إعلاميي ومذيعي الجزيرة أسلوباً وخطاباً يُظهر توافقهم السطحي مع توجهات الجمهور وقناعاته، ليس بقصد تبنيها أو إثبات مشروعيتها، وإنما في حقيقة الأمر بهدف زحزحة الجمهور بعيداً عنها وإحلال توجهات جديدة مكانها'.

وفي الفصل الثاني من الرسالة يتوقف الباحث أمام حالة التناقض الحاد بين الخطابين الرسمي والشعبي في العالم العربي إزاء مختلف القضايا السياسية، وللاستدلال على هذه الحالة يستعين في أطروحته بثلاث قضايا مركزية هي (الوحدة العربية، الصراع العربي-الإسرائيلي، احتلال العراق عام الفين وثلاثة)، علماً أن د.السعدي سيوظف هذه القضايا كعينة يستكشف من خلالها مضامين الخطاب السياسي للجزيرة.

وفي ذات السياق يتقصى الباحث شيوع حالة الخطاب السياسي المغلف بالغموض في الإعلام العربي ولجوء الأنظمة إلى بناء منظومات إعلامية هدفها الأساسي احتواء مخاطر التناقض المتجذر مع الجمهور، مُستعرضاً التـطور التاريخي للبث الإذاعي والتلفزيوني العربي بالتركيز على ثلاثة نماذج في مصر، والأردن، والسعودية، وصولاً إلى لحظة ولادة قناة الجزيرة القطرية والظروف السياسية المحيطة بها.

أما في الفصول الأربع اللاحقة فـينتقل الباحث الفلسطيني إلى تحليل خطاب مذيعي الجزيرة في أربعة نماذج من برامج القناة القطرية باعتبارها الأوسع انتشاراً -حين إعداد لرسالة- وهي؛ الاتجاه المعاكس/فيصل القاسم، بلا حدود/أحمد منصور، أكثر من رأي/سامي حداد، إضافة إلى الشريعة والحياة الذي يستضيف بشكل دائم الشيخ يوسف القرضاوي.

ومن خلال تحليل النص يستنتــج د.السعدي أن الخطاب السياسي لقناة الجزيرة لا يختلف عما يقدمه الإعلام الرسمي العربي؛ فهو ايضاً منسجم مع المنطلقات النظرية للخطاب السياسي القطري بل انه يبرره، بطرق غير مباشرة، ويضفي عليه المشروعية والمعقولية.

وعبر استخدام تحليل النص يتضـح للباحث أن مضامين خطاب الجزيرة حول القضايا المركزية تؤدي إلى عكس ما يؤمن به الجمهور، فهي مثلاً تقود الى ترسيخ استحالة تحقيق الوحدة العربية باعتبارها فكرة رومانسية غير واقعية، كما أن (الجزيرة) تختزل الصراع العربي-الإسرائيلي وتنأى به عن ساحته الأصلية كصراع على الوجود إلى نزاع حدودي، إضافة إلى أن خطابها اتسم بالقدرية في تعامله مع ملف احتلال العراق؛ سواء كان تبرير هذه القدرية بالاستناد الى أسس علمانية (في خطاب سامي حداد) أو إلى أسس دينية (في خطاب يوسف القرضاوي).

ويخلص الباحث في الفصل السابع من أطروحته إلى عرض النتائج التي تتلخص في ثلاث نقاط؛ الأولى أن الجزيرة تبذل جهداً مثابراً لدحض كل المنظومات الفكرية التي تشكل خطراً على النظام السياسي القائم ولا سيما ابرز حاضنين وهما الخطابان القومي العربي، وما يسمى 'الإسلام الجهادي'.

كما أن الجزيرة تبذل جهدا مكثفاً لتزويد الجمهور بطرح مختلف يستند إلى مزيج من الليبرالية الغربية والإسلام الوسطي كما تمثله جماعه الإخوان المسلمين، في وقت تسعى فيه الجزيرة الى تقديم النظام السياسي القطري كتجسيد حي لهذا البديل 'المقبول شعبياً' والذي من شأنه تحقيق جزء من أهداف الجمهور العربي مع الإبقاء على مصالح واستقرار النظام الاوتوقراطي الجديد.

يشار إلى أن محمود السعدي يحمل الجنسية الأمريكية وقد وُلد في قرية كفر زيباد بمحافظة قلقيلية عام 1960م لكنه نزح مع عائلته إلى الأردن إبان النكسة ثم رحل مع أسرته إلى الكويت في أعقاب أحداث 'أيلول الأسود' عام سبعين، وقد أنهى السعدي دراسة الثانوية العامة في الكويت ثم عاد إلى الأردن وحصل على شهادة دبلوم هندسة مدنية تطبيقية من الجامعة المتوسطة عام اثنين وثمانين.

وعلى الأثر غادر د.السعدي إلى الولايات المتحدة حيث مارس العمل الحـر لسنوات طويلة انقطع خلالها عن الدراسة، لكنه عاد إلى طلب العلم عام ثمانية وتسعين وحصل على درجة الماجستير في علوم الاجتماع من جامعة ممفيـس، وبعد ذلك بسنوات شرع بإعداد رسالته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة ذاتها حول خطاب الجزيرة ودورها السياسي.