الفلسطينيون أرادوها انتفاضة "حق العودة"

لم يحصل من قبل في تاريخ الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي هذا القدر من الخلط والاختلاط وانسياح ألوان الطيف السياسي الإقليمي على النحو الذي شاهدناه بذهول يعقد الألسن في يوم إحياء الذكرى 63 للنكبة الفلسطينية في الخامس عشر من الشهر الجاري.

مصدر الدهشة والذهول، أن الرسائل التي بعثت بها العاصمة السورية الى تل أبيب كانت بمثابة قنبلة شديدة الانفجار وضعت تحت جميع ادعاءاتها خلال عقود طويلة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وأطاحت بها مرة واحدة، وإحالتها الى شظايا وحطام، وانكشف الأساس الهش والخواء الذي نهضت عليه هذه المزاعم.
ومتن الرسالة السورية وجوهرها تجاه إسرائيل، كانا وصول بضع عشرات من الفلسطينيين من مخيمات اللجوء في سوريا الى الحدود مع الجولان المحتل، ونجاح عدد منهم في اقتحام أسيجة تلك الحدود ودخول بلدة مجدل سمش المحتلة، بل أن شخصا بلغ مدينة يافا، مسقط رأس أجداده، فيما سقط عدد من الشهداء برصاص سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

رسالة مخضبة بالدماء
وأغلب الظن أن صياغة الرسالة في دمشق تمت عن عمد لتكون دامية ومخضبة بدماء أبناء المخيمات الفلسطينية في دمشق وضواحيها. ذلك أن ثمة علاقة طردية بين غزارة الدماء التي كان مطلوباً أن تهرق وبين بلاغة الرسالة السورية التي أعفانا مروان مخلوف (ابن خال الرئيس السوري) من عناء إطالة إمعان النظر في سطورها.
فقد أعلن مخلوف، بما يشبه الفضيحة، في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز قبل أيام قليلة، أن «استقرار إسرائيل من استقرار سوريا»، والأصح من استقرار النظام في سوريا، كضامن للأمن الإسرائيلي والهدوء على جبهتها الشمالية الذي لم يعكر صفوه شيء منذ حرب أكتوبر 1973.
لقد قطع مخلوف الشك بأعظم يقين، كاشفاً عن نوع الممانعة والمقاومة اللتين يمثلهما النظام السوري، وأماط اللثام عن ماهية التمسح بالقضية الفلسطينية واستخدامها لإحكام الطوق حول عنق الشعب السوري، ومصادرة حريته وإخضاعه لسيطرة طغمة فاسدة قبضت على مقدراته واستحوذت على ثرواته.

عصفوران بحجر واحد
من نافل القول إن سوريا التي أفسحت الطريق ومهدته للوصول الى حدود الجولان أرادت بالإضافة الى ما سلف أن تصيب عصفورين بحجر واحد: صرف الأنظار عن انتفاضة الشعب السوري وحملات القتل والترويع التي تجري في طول المدن والقرى السورية وعرضها. وتقديم طلب صريح لإسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا بوقت إضافي مستقطع لإطلاق يدها لتحطيم الانتفاضة والقضاء عليها، وهو ما يفسر الموقف المتردد والرخو لهذه الأطراف حيال النظام السوري إذا ما قورن الحزم الذي ابدته حيال نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك والعقيد الليبي معمر القذافي، الذي حاول هو الآخر أن يقدم نفسه كضامن وحام لأوروبا من طوفان المهاجرين الأفارقة.
الى جملة الرسائل المذكورة، ثمة رسائل أخرى من ذات العيار تذهب في ذات الاتجاه. فحسب مصادر دبلوماسية غربية فان الرئيس بشار الأسد عرض على عواصم القرار الدولي، لا سيما واشنطن، إحداث تغيير معتبر وذي شأن في سياسة دمشق الإقليمية، يتضمن طرد قيادة حركة حماس فوراً من دمشق، كدفعة على الحساب مقابل شراء صمت هذه العواصم حيال الانتهاكات التي ترتكبها أجهزته بحق المدنيين. وهذا ما يفسر سرعة تحرك حماس باتجاه رام الله والرئيس محمود عباس وانجاز المصالحة قبل وقوع الأسوأ، خاصة أن سائر العواصم التي خاطبتها الحركة، ومنهم أقرب الأصدقاء في الدوحة، رفضوا استقبال قادتها في حال طردهم من سوريا.

معركة حياة أو موت
الأمر ذاته ينطبق على أوراق حزب الله. إذ ان من السذاجة الاعتقاد بأن وصول التظاهرات الى بلدة مارون الرأس الحدودية في جنوب لبنان «ممكناً» من دون موافقة الحزب. والأسباب ليست بعيدة كثيراً عن الأسباب السورية معطوفة عليها أسباب إيرانية من ذات الطينة وفوقها اندلاع الصراع بين الولي الفقيه والرئيس أحمدي نجاد.
بهذا المعنى، أصبحت جميع الأوراق مكشوفة، أو «ملعوبة» كما يقال في الدارجة. فالمعركة معركة حياة أو موت بالنسبة للرئيس الأسد ونظامه، كما بالنسبة لحزب الله ومستقبله. أما الملعب فما زال هو القضية الفلسطينية، ودماء أبنائها الذي لا يزال قابلاً للاستباحة والاستثمار حتى عندما تريد سوريا تقديم أوراق اعتمادها كضامن لأمن إسرائيل.
بيد أن لمشهد النكبة في ذكراها الـ63 مقلباً آخر. ففي زمن الثورات والتحوّلات الكبرى يحدث ما لم يكن في الحسبان، وينفتح التاريخ فجأة على احتمالات جديدة، بصرف النظر عن نوايا اللاعبين أنفسهم.

انتفاضة ثالثة على الطريق
ملامح الصورة الأخيرة بدا أكثر تعقيداً، فعلى عكس المشهد الصاخب على الحدود الشمالية، كانت الحدود الشرقية والجنوبية على الجبهات الفلسطينية والأردنية والمصرية أكثر هدوءاً.
فقد أحيت السلطة والفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذكرى بالطريقة المعتادة وحافظت على الوتيرة ذاتها، ولم يشجع أي من هذه الأطراف أي اندفاعات صاخبة باتجاه الحدود أو خطوط التماس على الحواجز الإسرائيلية والمستوطنات.
وفي مصر/الثورة، حيث اتخذت إجراءات مشددة، لم تسمح السلطات بوصول المتظاهرين الى رفح. وفي الأردن لم يصل المتظاهرون الى الحدود أصلا.
ومع ذلك، لم يكن يوم النكبة هذا العام مشابهاً لما كان يحدث في أي عام مضى، فللمرة الاولى يظهر الفلسطينيون ومعهم الشعوب العربية في دول الطوق العزم على تجاوز الطقوس الفولكلورية المعهودة في التظاهر والاحتجاج وإعادة تذكير العالم بقضية اللاجئين كمأساة إنسانية، الى دفعها على رأس جدول الأعمال، وإظهار أن أصحاب الشأن، مستعدون لإطلاق انتفاضة ثالثة: «انتفاضة حق العودة»، بعد أن خاض فلسطينيو الداخل انتفاضة أولى أواخر ثمانينات القرن الماضي أفضت الى اعتراف إسرائيلي بالشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير الفلسطينية وانجاز اتفاق أوسلو معها، وانتفاضة ثانية مطلع الالفية الثالثة لوقف الاستيطان الزاحف، وإقامة الدولة التي أصبحت مؤسساتها جاهزة للإعلان، والتي ستخوض امتحانها العسير وربما الأخير في سبتمبر المقبل.

تهديد لوجود إسرائيل
إسرائيليا: استدعت حادثة الجولان التي استدعت أسئلة من نوع «ماذا لو سار بضعة ملايين من بني البشر في اتجاه حدود الدولة الإسرائيلية، من سورية، ولبنان، وغزة، ومصر، والأردن، والضفة الغربية؟». عملياً، لا يستطيع الإسرائيليون حشد ما يكفي من الشرطة وحرس الحدود لمنع ملايين المحتجين من اجتياز الحدود. وسياسياً، سيكون من المكلف جداً قتل مائة ألف متظاهر (مثلا)بالمدفعية والدبابات والطائرات في يوم واحد. وعملياً، أيضاً، ستفقد المدفعية والدبابات والطائرات قيمتها إذا تمكّن مائة ألف متظاهر من اجتياز الحدود، ودخلوا إلى المراكز السكّانية في إسرائيل.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، قال إن ما حدث في الجولان يهدد وجود إسرائيل. وهذا صحيح، طالما أن المقياس الذي يستخدمه الإسرائيليون في تعريف وجودهم في المنطقة، وتوصيف ضمانات هذا الوجود، بقي على حاله. وظلت الأسئلة التي تدور من نوع كيف حدث هذا الخرق الأمني؟ كيف سنجابه الخرق القادم، ونستعيد قدرتنا على الردع؟
إن تضحيات الشهداء الذين سقطوا في سابقة هي الأولى من نوعها عندما اجتازوا الحدود رافعين الأعلام الفلسطينية في وضح النهار وليس السلاح تحت جنح الظلام، تضحيات لا تقدر بثمن. وهم ربما عمدوا مرحلة جديدة ليس لأنظمة الممانعة على الطريقة السورية والإيرانية واتباعهما مكاناً فيها. لكن لا بد الى أن تتبلور هذه المرحلة وتتوفر شروطها. وعلى الفلسطينيين، وخصوصا قياداتهم، أخذ الحيطة والحذر من أن يكون الشعب الفلسطيني ضحية الثورات المضادة كما كان ذات مرة ضحية انقلابات طعم عسكرية تنكرت بزي ثورات وهمية سرعان ما تحولت الى كابوس أحال حياة أوطاننا الى جحيم.